انتفاضة الموظفين
انتفاضة موظفي الضرائب العقارية, والتي أخذت شكل الإضراب المفتوح, بحثا عن المساواة بغيرهم ممن يعملون في مجال الضرائب, هي ظاهرة مهمة وملفتة. فقد اختارت الحكومة – منذ فترة – أن تتعامل بشكل انتقائي مع البيروقراطية الحكومية. تقوم بتطوير ودعم بعض المجالات التي تدر عائدا عليها مثل البترول والسياحة وبعض مؤسسات جباية الضرائب, في حين لم تمد يد التطور للمؤسسات البيروقراطية الأخري. تحول الجهاز الإداري إلي شمال وجنوب, تماما مثل الدول المتقدمة والدول النامية. أثار هذا حنق موظفي الضرائب العقارية الذين يجمعون الملايين ويقبضون الملاليم علي حد تعبيرهم. هم يريدون – بوضوح – أن يكونوا ضمن بيروقراطية الشمال لا الجنوب.
في مصر هناك ما يقرب من سبعة ملايين موظف – وهو رقم ضخم نسبيا في أحجام البيروقراطيات – لم يحدث أن اتخذوا مثل هذا الموقف المعاند من الحكومة العكس صحيح, فقد اعتمد النظام الحاكم – في مختلف العهود – علي هذا الجيش البيروقراطي في مساندته. والموظفون دائما علي استعداد لدعم الحكم أيا كان اتجاهه. في الانتخابات العامة تخرج الهيئات الحكومية لنصرة مرشحي الحزب الوطني, وفي أحيان كثيرة تستخدم السيارات الحكومية للغرض نفسه, وهو أمر لم يعد مقبولا في الانتخابات, وتلاحقه عيون المعارضة والهيئات التي تتولي مراقبة العملية الانتخابية. وعندما احتاج الحزب الوطني إلي تسيير مظاهرة ضخمة للتنديد بالحرب الأمريكية علي العراق لم يجدوا سوي موظفي الحكومة, السند الدائم للحكم. وتشير الدراسات المختلفة التي أجريت علي البيروقراطية المصرية – منذ أيام الفراعنة إلي الآن – إلي أن الحكم لم يستغني أبدا عن موظفيه, ويتجه إلي حمايتهم, ويسمح لهم بدرجات من الفساد الإداري, طالما أنهم السند والعون الدائم له. ومن جانبهم, يشعر الموظفون أن القرب من الحكومة قوة ودعم بالنسبة لهم, من هنا ذاعت الأمثال الشعبية علي شاكلة إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه, ويا بخت من كان النقيب خاله, وهكذا.
الصورة الآن اختلفت, فقد خرج الموظفون إلي الشارع يشكون حالهم, سبقهم في الاحتجاج أساتذة الجامعات, وهم جزء من البيروقراطية العلمية, والقضاة, هم جزء أساسي من سلطات الدولة. أي أن الدولة المصرية تشهد احتجاجا من أعماقها تحركه الحاجة الاقتصادية أكثر مما تشعله المواقف السياسية. لم يخرج الموظفون لموقف سياسي ولكن خرجوا لاحتياج اقتصادي. من هنا فالموقف معقد ومركب. الحكومة مطالبة الآن بسد احتياجات هؤلاء. وإذا سكت العاملون في الضرائب العقارية, سيخرج – غدا – آخرون في مصلحة حكومية أخري, تماما مثلما جري طيلة العاملين الماضيين في سلسلة الإضرابات العمالية المتوالية, والتي كان نموذجها عمال غزل المحلة, الذين نجحوا في إضرابهم الأول, فتوالت الإضرابات العمالية في أماكن أخري.
يبدو أن الصيغة الحالية لم تعد تكفي لإدارة تروس البيروقراطية المتكلسة, والتي تقوم علي الإكراميات – أو ما يسمي علميا بالفساد – باعتباره تعويضا للموظفين عن أجورهم المتدنية في أجواء رمزية من تديين شكلي للمكاتب الحكومية. ولم يستح – منذ شهور – وزير التنمية الإدارية عندما أعلن أن الغالبية العظمي من الموظفين يتقاضون رشاوي, ووعد بالميكنة والشفافية في المناقصات سبيلا للقضاء علي هذا المرض الإداري الفتاك. الواضح أن هذه الصيغة لم تعد صالحة للموظفين أنفسهم, الذين يريدون حياة كريمة طالما أنهم يقدمون ولاء رصينا.