تتعدد التحليلات والتكهنات بشأن الحشود السورية المستجدة علي الحدود اللبنانية ويبدو أن جميع هذه الآراء صحيحة في ضوء الخفة السورية في التعاطي مع الشأن اللبناني والمسئولين اللبنانيين.
فمن قائل إنها تمهد لعودة الجيش السوري إلي لبنان, وهذا رأي صحيح لأن المتتبع للسياسة السورية منذ خروج الجيش السوري من لبنان, يجد أن لبنان يستحوذ علي عقول المسئولين في دمشق من كل المراتب. فلبنان ##الفرخة التي باضت ذهبا##, ولبنان الملجأ الذي تصدر إليه الأزمات السورية المحلية والإقليمية. كما أن لبنان يشكل مصدرا للدخل لعامة السوريين, ويقال إن عدد العمال السوريين في لبنان بلغ في وقت من الأوقات قرابة المليون عامل.
فانطلاقا من هذه الحقائق البديهية يمكن فهم كيف أن لبنان يتقدم في العقل السوري الرسمي علي إسرائيل وعلي استعادة لواء الإسكندرون السليب الذي يبدو أنه أصبح في الأدبيات والسلوك السوري الرسمي الرسم أثرا بعد عين.
وفي معزل عن الأسباب التي يسوقها أصحاب هذا الرأي, من أن الدخول السوري إلي لبنان, إذا حصل, فهو يتمتع بغطاء دولي, لمكافحة الإرهاب في شمال لبنان أو لضرب الأصوليين والسلفيين. أو حتي أن البعض يذهب إلي ما أبعد من ذلك بالقول إن هناك صفقة يكثر الحديث عنها هذه الأيام بين سورية والولايات المتحدة تتمثل بضرب حزب الله كمقدمة لتسوية شاملة للأوضاع في المنطقة.
وإلي قائل بإن هذه الحشود تهدف إلي تطبيق القرار الدولي 1701 ووقف التهريب عبر الحدود الدولية اللبنانية – السورية من وإلي لبنان, وخصوصا تهريب الأسلحة الي لبنان ووقف تدفق الأصوليين, هذا إذا كان الأصوليون في سورية فعلا في حاجة إلي دعم من اصوليي لبنان, لزعزعة الاستقرار في سورية.
كل ما سبق من تحليلات وتكهنات صحيح, ويمكن إضافة رأي آخر يتلخص في جملة من المعطيات المرتبطة بالجغرافيا السياسية للمناطق التي يتم الانتشار في محيطها.
إن طبيعة الانتشار العسكري تشير إلي نية السلطات في سورية إصابة أكثر من عصفور بحجر. فالانتشار أرهب اللبنانيين من دون شك, وهم استعادوا مآثر تلزيم لبنان إلي سورية من قبل المجتمع الدولي, وعادت بهم الذاكرة إلي مراكز الأمن السورية التي انتشرت بين مدنهم وقراهم, وصنوف الاذلال التي أذاقهم إياها جنود البعث علي اختلاف مراتبهم, من الجندي الذي يقف علي الحاجز وصولا إلي عنجر.
وكيف لا يتم ذلك ومن عانوا من الوجود السوري الشقيق في لبنان مازالوا أحياء يرزقون, وآثار التحقيقات ##الشقيقة## علي أجسادهم وفي عقولهم. والانتشار السوري يسعي أيضا إلي وقف التهريب وبالتالي تأكيد التزام سورية تطبيق القرارات الدولية وتبييض صفحتها مع المجتمع الدولي وتحديدا فرنسا ومن ورائها الولايات المتحدة.
وبالعودة إلي طبيعة المنطقة المحاصرة من الجانب السوري وهي شمال لبنان حيث تقطن غالبية من السنة في طرابلس وعكار يضاف اليها عدد من المسيحيين والعلويين الذين إذا استثنيناهم نجد أن معظم سكان الشمال اللبناني يدينون بالولاء لقوي الرابع عشر من آذار المناهضة لسورية.
وعلي أبواب الانتخابات النيابية المقبلة, وفي ضوء تصريحات المسئولين السوريين العلنية من أن حلفاءهم سوف يفوزون في الانتخابات المقبلة ويغيروا موازين القوي السياسية الحالية حيث الأغلبية النيابية معقودة اللواء للقوي المناهضة لسورية, كان لا بد من مد يد العون لحلفاء دمشق في لبنان وإن كان من وراء الحدود لمساعدتهم علي الفوز في الانتخابات المقبلة.
ففي عكار أكثر من ثلاثمائة وخمسين ألف ناخب, وفي منطقة وادي خالد وحدها يقطن قرابة أربعين ألف لبناني يعتاشون علي خطوط التهريب المفتوحة مع سورية إضافة إلي الخطوط المفتوحة من القبيات وعندقت, وهما أكبر تجمع للمسيحين في الشمال, فضلا عن سائر التجار في سوق حلبا. ومع اقتراب فصل الشتاء, يكثر تهريب المازوت المستعمل للتدفئة المنزلية في ضوء تفاوت السعر بين المازوت السوري المدعوم واللبناني, إضافة إلي العديد من السلع الأخري.
وإذا تم تضييق الخناق الاقتصادي علي الشمال اللبناني, وتم وقف خطوط التهريب, سوف يتسبب ذلك بضائقة اقتصادية تضاف إلي الأزمات التي يعيشها عموم اللبنانيين. وذلك سوف يدفع المواطنين إلي الاتجاه نحو النواب والمسؤولين الحكوميين في لبنان وتحمليهم مسئولية الأزمة إضافة إلي تحميل تيار المستقبل مسئولية الوعود الانتخابية التي لم ينفذ منها الكثير فضلا عن تحميل حكومة السنيورة الأولي والثانية مسئولية تردي الأوضاع المعيشية في منطقتهم وتأليب الرأي العام الشمالي علي قوي الرابع عشر من آذار عموما وتيار المستقبل والحكومة تحديدا كمقدمات انتخابية تساهم في انتزاع السيطرة علي الشمال من هذه القوي..
وفي هذا السياق يبدو الانتشار السوري الشمالي تضييقا أكثر علي ##السنة##, ويصب في خانة التصريحات الرسمية السورية. وإذا تم الالتفات إلي الانتشار العسكري الموازي عند منطقة القاع وبعلبك, فنجد أن الحشود السورية لا يمكن ملاحظتها أيضا نظرا لطبيعة المنطقة السكانية والسياسية. ففهي هذه المناطق انتشار كثيف للطائفة الشيعية وبعض قري الانتشار المسيحي, وتاليا هذه المنطقة تضم قوي موالية لسورية ولا حاجة إلي افتعال أزمات من أي نوع كان في مواجهة نوابها. كما أنها, في الأدبيات السياسية السورية, لا تشكل خطرا أصوليا يزعزع الاستقرار في بلاد الشام حيث الوجود السني ضعيف ومراقب من مواطنيه الشيعة. عندها لا بأس من إبقاء بعض خطوط التهريب تحت السيطرة من دون إقفالها بالكامل.
كان الجميع في غني عن الغوص في تحليلات وإبداء آراء قد يصح بعضها وقد لا يصح لو أن السلطات السورية اعتمدت وتعتمد الشفافية في تعاطيها مع الشأن اللبناني. ولو أنها, قبل أن تنشر جنودها, وهذا أمر سيادي سوري لا شأن لأحد به, أصدرت بيانا يشير إلي الأسباب الموجبة أو طلبت انعقاد المجلس الأعلي اللبناني – السوري, الذي تصر سلطات دمشق علي المحافظة عليه علي الرغم من الاتفاق علي تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين, لمناقشة الأمر مع اللبنانيين أو في الحد الأدني لإبلاغهم بحيثيات الخطوة ومآلها.
[email protected]
نقلا عن شفاف الشرق الأوسط