بعضنا ــ لاسيما الذين لم يتجاوزوا الـ60 ــ لطالما تساءلوا عن الشعور الذي يخالج المرء عندما يعيش في حقبة تاريخية مثل تلك التي يقرأون عنها في الكتب. نحن نعيش هذه الحقبة الآن. نعيش التاريخ، ونعاني إحدى أكبر حالات الهلع المالي على الإطلاق. يمكن مقارنتها بالأزمات الكبيرة ــ عامي 1907 و1929 ــ ولا نعرف ما ستكون عواقبها على النظام المالي والاقتصاد والمجتمع عموما.
أراهن على أن حكومات العالم ستنتصر في النهاية في هذه المعركة ضد الخوف. فلديها أدوات غير محدودة في متناولها، لاسيما إن عملت معا. باستطاعتها تأميم المؤسسات والدعوة إلى إجازات مصرفية وتعليق المتاجرة بالأسهم لأسابيع وشراء الديون والأسهم وإعادة النظر في شروط القروض السكنية الممنوحة . والأهم من ذلك أن الحكومة الأمريكية قادرة على طبع المزيد من النقود. لكل هذه الأدوات تأثيرات بغيضة جدا على المدى الطويل، لكنها أفضل بكثير من احتمال انهيار النظام المالي. ويبدو أن واشنطن أدركت أن عليها القيام بكل ما يلزم لدعم هذا النظام. هناك أسئلة مهمة لاتزال بلا جواب. ما المطلوب لإيقاف التدهور؟ ما الكلفة؟ كم سيطول الأمر قبل أن تظهر تأثيرات خطة الإنقاذ؟ لكن عاجلا أم آجلا، ستنتهي حالة الهلع التي كانت سائدة في الأسواق المالية الأسبوع الماضي. طبعا، هذا لن يعني العودة إلى النمو أو ازدهار الأسواق. الأيام المقبلة ستكون عصيبة، لكنها ستؤدي إلى نوع من الاستقرار.
وسط كل الصعوبات والمشقات التي سنشهدها، أرى بصيص أمل. هذه الأزمة أجبرت الولايات المتحدة ــ بشكل دراماتيكي وعنيف ــ على مواجهة العادات السيئة التي اكتسبتها خلال العقود القليلة الماضية. إن تمكنا من التخلي عن هذه العادات، ستتحول آلام اليوم إلى مكاسب على المدى البعيد.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، كان استهلاك الأمريكيين يفوق إنتاجيتهم، وقد عوضوا عن ذلك من خلال الاقتراض. فسهولة الحصول على قروض وابتكار مشتقات مالية جديدة طوال عقدين أتاحا للجميع تقريبا إمكانية اقتراض أي مبلغ من المال لأي سبب. إن كنا نريد منزلا أكبر، أو جهازا تلفزيونيا أفضل أو سيارة أسرع، لم نكن نواجه أي مشكلة في الحصول عليها، حتى إن لم نكن نملك المال اللازم لشرائها. كنا نشتريها بواسطة بطاقات الائتمان أو نأخذ قرضا كبيرا تضمنه قيمة منزلنا لتلبية رغباتنا. مع ازدياد نزواتنا، ازدادت الديون العائلية من 680 مليار دولار عام 1974 إلى 14 تريليون دولار اليوم. وهذا المبلغ ازداد ثلاثة أضعاف خلال السنوات السبع الماضية فقط. فالعائلة العادية تملك 13 بطاقة ائتمان، و40 بالمائة منها تم استعمالها لشراء السلع، مقارنة بـ6 بالمائة عام 1970.
لكن تصرف المواطن الأمريكي العادي كان أفضل بكثير من تصرف الحكومة. فكل المدن والمقاطعات والولايات أرادت المحافظة على عملياتها الكثيرة والمتزايدة من دون زيادة الضرائب. كيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور؟ من خلال الاقتراض واستعمال مشتقات مالية أكثر تعقيدا. سندات الإيرادات كانت تضمنها الإيرادات المستقبلية المحتملة الناتجة عن الضرائب أو اليانصيب. يقول كريس إدواردز من معهد كاتو: “كانت هناك نزعة متنامية تقضي بإصدار سندات لتمويل المشاريع الفيدرالية المستقبلية لبناء الطرقات السريعة والمنازل وغيرها”. نتيجة لذلك، يشير إلى أن هذه النزعة أدت إلى جعل المشاريع أكثر كلفة لأنها تحتم دفع فوائد. ولأنها “تعزل دافعي الضرائب عن كلفتها”، كل ما عليهم دفعه الآن هو الفائدة، فإن كلفة المشاريع غالبا ما تتخطى الكلفة المتوقعة.
السياسيون المحليون ليسوا المشكلة الوحيدة. عندما كان آلن جرينسبان حاكما لبنك الاحتياطي الفيدرالي، رفض بشدة التسبب بأي ألم. هل تخلفت روسيا عن تسديد ديونها؟ فلنخفض معدلات الفائدة. هل يسود القلق بشأن اقتراب عام 2000؟ فلنخفض الفائدة. هل انهارت سوق النازداك؟ فلنخفض الفائدة. هل تباطأ الاقتصاد بعد هجمات 11 سبتمبر؟ فلنخفض الفائدة. مهما كانت المشكلة، تمثل الحل في الحفاظ على تدفق الأموال ودعم الاقتصاد. من خلال تنشيط سوق العقارات السكنية بشكل مصطنع، أدت هذه الاستراتيجية في النهاية إلى مشاكل مستعصية.
كان البلد برمته شريكا في عملية احتيال كبرى. وكما يشير خبير الاقتصاد جيفري ساكس: “أردنا توسيع عمل الحكومة، لكننا لم نشأ دفع ثمن ذلك”. فاقترضنا لتخطي المشكلة. عام 1990، كانت الديون الوطنية تبلغ ثلاثة تريليونات دولار. (يبدو هذا الرقم كبيرا، لكن تابعوا القراءة). بحلول عام 2000، تضاعف هذا المبلغ تقريبا، ليصل إلى 5.75 تريليون دولار. وهو يوازي الآن 10.2 تريليون دولار. وقد أصبح هذا المبلغ مؤلفا من 11 رقما لدرجة أن شاشة مؤشر الدين الوطني في مدينة نيويورك لم تعد تتسع لعرضه عليها. وينوي مالكوها شراء شاشة جديدة أكبر في العام المقبل.
“الفعالية المالية” هي التعبير الطنان المستعمل في وول ستريت بدلا من كلمة دين. وهو جوهر الأزمة الحالية. لقد شرح وارن بافيت المشكلة بأسلوبه الخاص في برنامج The Charlie Rose Show، قائلا إن “الفعالية المالية هي الطريقة الوحيدة لجعل رجل ذكي مفلسا… إن اتخذت خطوات ذكية، ستصبح غنيا جدا في النهاية. إن اتخذت خطوات ذكية، واستعملت الفعالية المالية واقترفت خطأ واحدا، قد يؤدي ذلك إلى إفلاسك، لأن أي رقم مضروب بصفر هو صفر. لكنك تزداد ثقة عندما يقوم الناس حولك بذلك بنجاح، وأنت تقوم به بنجاح. الأمر شبيه بحفلة سندريلا الراقصة حيث الجميع في أفضل حالاتهم والموسيقى أفضل، والأجواء تزداد مرحا، فتسأل نفسك: «لماذا عساي أغادر قبل ربع ساعة من منتصف الليل؟ سأغادر قبل دقيقتين». لكن المشكلة هي أن ما من ساعات على الحائط والجميع يظنون أنهم سيغادرون قبل منتصف الليل بدقيقتين”.
إن كان هناك من درس يمكن تعلمه من هذه الأزمة فهو يتمثل في مبدأ بسيط وقديم في علم الاقتصاد: لا شيء مجاني. إن أردت شيئا، عليك أن تدفع للحصول عليه. الدين ليس أمرا سيئا إن استعمل بشكل مسؤول، فهو جزء أساسي من الرأسمالية العصرية. لكن إخفاء كميات هائلة من الديون وراء مشتقات مالية معقدة ليس سوى طريقة لتمويه الكلفة، وهي دعوة إلى التصرف غير المسؤول.
في مرحلة ما، يجب التوقف عن ممارسة المحاسبة السحرية. في مرحلة ما، تعين على المستهلكين التوقف عن استعمال منازلهم كبنوك وإنفاق أموال لا يملكونها. في مرحلة ما، تعين على الحكومة مواجهة مديونيتها. هذا بمنزلة تحذير قوي للولايات المتحدة، وغيرها من المجتمعات المفرطة المديونية. إن أبدينا ردة الفعل المناسبة وغيرنا تصرفاتنا بشكل جذري، قد تكون هذه نعمة مقنّعة بشكل أزمة. (مع أنها “في هذه اللحظة تبدو مقنّعة فعلا” كما قال تشرشل عندما خسر انتخابات عام 1945).
على المدى القصير، كل الحلول للأزمة الحالية تتطلب من الحكومات أن تزيد من ديونها ومسؤولياتها. هذا أمر محتم وضروري. لكن هذا لا يعني أن علينا، كما يدعو بعض علماء الاقتصاد المرموقين، أن نحفز الاقتصاد بمزيد من التخفيضات الضريبية. هذه ستكون مجرد وسيلة إضافية لإطالة الحفلة بشكل مصطنع، وكأنك تطلب من مدمن كحول الخضوع لعلاج في العام المقبل، لكن حتى ذلك الحين يمكنه أن يشرب المزيد من الويسكي. هناك وسيلة أفضل بكثير لتحفيز الاقتصاد تكمن في إعلان وتسريع مشاريع مهمة في البنى التحتية والطاقة، وهي عبارة عن استثمارات وليست استهلاكا، وبالتالي سيكون لها تأثير مختلف تماما على المستقبل المالي للبلاد. (لا يتم إدراجها بشكل منفصل في الميزانية الفيدرالية، لكن ذلك ينم عن أنظمة محاسبة سيئة ليس إلا(.
على المدى المتوسط والبعيد، علينا أن نعود إلى الأسس الصحيحة. يجدر بالعائلات مثلا أن تزيد من مدخراتها، وعلى الحكومات أن تقر حوافز لتشجيع الادخار. إن الحكومة الأمريكية تقدم حوافز كبيرة للاستهلاك (خير مثال على ذلك هو اقتطاع الفوائد المدفوعة على القروض السكنية من الضرائب المتوجبة)، وهي ناجحة جدا. فمنازلنا من أكبر المنازل في العالم، وأجهزتنا التلفزيونية هي الأرق في العالم، ونحن نمتلك أكبر عدد من السيارات في العالم. إن فرضنا ضرائب على الاستهلاك وشجعنا الادخار، سيكون لذلك تأثير إيجابي أيضا. يجب تعديل القوانين المتعلقة بديون بطاقات الائتمان للحرص على أن يفهم الناس مخاطر وكلفة هذه البطاقات. التحرك في هذا الاتجاه سيكون لمصلحة العائلات والحكومة أيضا.
وكذلك يجب على وول ستريت أن تتغير أيضا. لطالما جادل بول فولكر بأن انتشار المشتقات المالية المبتكرة لا علاقة له بالتغيير: فهي بكل بساطة أعادت توزيع الموارد الموجودة ولم تساهم في الاقتصاد بشكل قيم. سيتم الحد من هذه النشاطات إلى حد كبير الآن. يقول بويكن كوري، مدير “إيجل كابيتال”: “طوال 20 عاما، تغيرت هيكلية كل المؤسسات المالية تقريبا بشكل خطر. كلما طالب أحدهم برفع معدل الدين والمخاطر، كافأته الأسواق على المدى القصير. فازدادت ثقة هؤلاء الناس بأنفسهم وتمت ترقيتهم ووضع المزيد من المال تحت سيطرتهم. وفي الوقت نفسه، كل من كان في موقع سلطة وتردد وطالب بتوخي الحذر اعتبر «مخطئا». وتم التضييق بشكل متزايد على دعاة الحذر وتم تجاهلهم عندما حان وقت ترقيتهم، فخسروا من سيطرتهم على الأموال. هذا كان يحدث يوميا في كل المؤسسات المالية تقريبا وبشكل متكرر إلى أن أصبح هناك نوع معين من الناس الذين يديرون الأمور. هذا العام، سيتم أخيرا تسليم ما تبقى من الأموال إلى مديرين ومستثمرين أكثر حذرا ورصانة، أمثال وارين بافيت … في العالم”.
لطالما جادل فولكر أيضا بأن النظام المالي الشديد التعقيد لم يكن مستقرا بقدر ما يظنه الناس وأن تنظيمه وجعله مستقرا سيتطلب جهودا حثيثة وشاملة. الآن ستحظى هذه المسائل باهتمام كبار المسؤولين. وتخشى وول ستريت أن تفرط الإدارة الديموقراطية في تنظيم الأمور. لكن لننظر إلى مستشاري باراك أوباما في المسألة، وهم بافيت وفولكر ووزيرا الخزانة السابقان روبرت روبن ولاري سامرز. من المرجح أن جهودهم سوف تسفر عن نظام مالي منظم بشكل أفضل مع أنه سيؤدي إلى أرباح أقل، وبالتالي سيكون أكثر استقرارا وأمانا.
من المرجح أن يتقلص حجم القطاع المالي نفسه، وهذا ليس بالأمر السيئ أيضا. فقد ازداد حجمه بشكل مفرط. ويشير كوري إلى أن “30 بالمائة من أرباح الشركات المدرجة على مؤشر ستاندرد آند بورز 500 العام الماضي حققتها مؤسسات مالية، وكان المستهلكون الأمريكيون ينفقون 800 مليار دولار أكثر مما يجنون كل عام. نتيجة لذلك، فإن معظم الحائزين شهادة دكتوراه في الرياضيات كانوا يذهبون للعمل في القطاع المالي غير المنتج بدلا من العمل في مجال الأبحاث الطبية وتكنولوجيا الوقود البديل. الإنفاقات الكبيرة ذهبت لبناء المنشآت الفردية بدلا من البنى التحتية الضرورية”. سوف تنهي الأزمة سوء توزيع الموارد البشرية والمالية وتعيد توجيهها بطرق أكثر إنتاجية. إن تمكن بعض الأشخاص الأذكياء الذين يعملون في وول ستريت الآن من بناء نماذج أفضل لاستعمال الطاقة وفعاليتها، فإن ذلك سيكون مكسبا للاقتصاد.
لايزال الاقتصاد الأمريكي حيويا ومرنا إلى حد كبير. حتى الآن، البيانات الأكثر إثارة للدهشة هي التي تظهر كم أن الاقتصاد بقي مرنا على الرغم من كل هذه الصدمات. هذا لا يمكن أن يدوم، لاسيما إن استمرت حالة الهلع. لكن هذه البيانات تظهر أن للاقتصاد الأمريكي حسنات راسخة ستساعده بعد انتهاء فترة الركود القاسية على استعادة عافيته بشكل أسرع مما يتصوره الكثيرون الآن. صعود الأسواق النامية التي كانت تحرك النمو العالمي لن ينتهي بين ليلة وضحاها أيضا.
من شأن هذا الانضباط الجديد أن يفيد أمريكا بشكل أوسع. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تصرفت الولايات المتحدة في العالم من دون قيود أو مساءلة بشأن نفوذها. هذا لم يكن لمصلحة السياسة الخارجية، بل جعل واشنطن متغطرسة وكسولة ولامبالية. واتخاذها للقرارات كان أشبه باستراتيجية شركة “جنرال موتورز” التجارية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وهي عملية كانت تحركها مجموعة كبيرة من العوامل الداخلية، من دون إدراك لطابعها الملح أو اهتمام بالضغوط الخارجية. لم نكن مضطرين إلى اتخاذ خيارات استراتيجية» كنا قادرين على الحصول على كل ما نبتغيه. كان بإمكاننا اقتراف الأخطاء وإغضاب العالم وفسخ التحالفات وهدر الموارد وشن الحروب بشكل أخرق، من دون عواقب. كان لدينا مجال واسع لارتكاب الأخطاء، والكثير منها.
لكن العالم مختلف تماما اليوم. إن كانت حرب العراق قد قوضت مصداقية الولايات المتحدة السياسية والعسكرية، فإن هذه الأزمة المالية قلصت من نفوذ أمريكا الاقتصادي والمالي. على المدى القصير، تم اللجوء إلى استثمارات آمنة ــ بالدولار وسندات الخزينة الحكومية ــ لكن على المدى البعيد، من المرجح أن تسعى البلدان لزيادة استقلاليتها عن قوة عظمى غير مستقرة. على الولايات المتحدة أن تعمل جاهدة الآن لجذب الاستثمارات إليها وإدارة شؤونها المالية بشكل أفضل. سيتعين عليها إقناع بقية البلدان بمشاركتها في مشاريعها الخارجية. وسيتعين عليها اتخاذ خيارات استراتيجية. لا يمكننا نشر نظام صواريخ مضادة على الحدود الروسية، وضم جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو، وأن نتوقع استمرار التعاون الروسي في مســــــألة البرنامج النووي الإيراني. لا يمكننا التنديد بصوت عال باستثمارات الصينيين والعرب في أمريكا وأن نأمل أن يستمروا في شراء أربعة مليـــــــــــارات دولار من سندات الخزينة بعد ذلك. لا يمكننا أن نستمر في وعظ العالم بشــــــأن الديموقراطية والرأسمالية فيما تعم الفوضى داخل بلدنا.
إن الإيمان بأن التنافس أمر جيد في التجارة والرياضة والحياة من المعتقدات الأمريكية الراسخة. والرقابة والمساءلة هما من الآليات الأساسية التي وضعها جيمس ماديسون لفضح ومواجهة الانتهاكات والعجرفة وفرض نوع من الانضباط على الناس. هذا الانضباط سيكون مؤلما بالنسبة إلى بلد أصبح معتادا على الحصول على كل شيء، لكنه سيجعلنا أقوى على المدى الطويل. إن تعلمنا الدروس الصحيحة من هذه الأزمة، ستعود الولايات المتحدة لتفرض القوانين. وهذا لا يمكن أن يكون سيئا بالنسبة إلينا.
نيوزوييك