وقعت مصر علي اتفاقية مكافحة الفساد في 9 سبتمبر 2003 تنفيذا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد, والتي تنص علي تشكيل هيئة مستقلة للاضطلاع بدور في محاربة الفساد, وتمكين منظمات المجتمع المدني من القيام بدور المراقبة والمساءلة لتحقيق الشفافية والنزاهة. ومع ذلك ظلت مصر تحصل علي درجة متدنية لا تزيد علي 3.3 من عشرة طوال ثلاث سنوات وتحتل المركز 70 من ضمن 163 دولة في تقرير منظمة الشفافية الدولية. وفي عام 2007 تراجعت للمركز 110 وحصلت علي 2.9, واستمرت في التراجع عام 2008 لتصل للمركز 115 بمعدل 2.8 درجة.
في عام 2007 كان التراجع بسبب القيود علي تداول المعلومات, والتعنت ضد منظمات المجتمع المدني في القيام بدورها الرقابي لمواقفها المطالبة بإصلاح شئون المجتمع. وفي عام 2008 وصفت المنظمة مصر بأنها ##أقرب للدولة الفاسدة## وأن الفساد يشكل عائقا خطيرا أمام التنمية, واستمرار الفساد بمستويات عالية هو أشبه بكارثة إنسانية, وعلي الرغم من استمراره فإن النقطة الجيدة التي تم رصدها مؤخرا أن مشكلة الفساد في مصر أصبح يتم تداولها علنا بالنقاش.
لعل ذلك يعود إلي أن الحكومة المصرية لم تبادر بوضع تقرير عن الفساد إلا في عام 2007 وإن لم يتم نشره بشكل كامل. وقد تأخر صدور التقرير الثاني لـ ##لجنة دعم الشفافية ومكافحة الفساد## حيث كان من المفروض أن ترفع تقريرها لرئيس مجلس الوزراء قبل نهاية شهر أبريل 2008, بسبب عدم انعقاد أي اجتماعات للجنة التي شكلها د. أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية من شخصيات عامة. ونظرا لعجز هذه اللجنة عن إعداد التقرير, فقد استعان د. درويش بمستشاريه ومسئولين حكوميين لإنجاز التقرير بعد غياب أعضاء اللجنة عن كل اجتماعاتها, وبالتالي لم تتمكن اللجنة الجديدة من إصدار تقرير سوي في 8/18/ 2008, وكان أول تقرير يتم إتاحته للتداول عبر موقع الوزارة الإلكتروني.
وبالرغم من أن هذا التقرير قد أوضح أن اختلاف طبيعة المؤشرات والإحصائيات يكون حسب تعريف الجهة الدارسة, بما ينعكس علي مصداقية تلك المؤشرات في التدليل علي حجم ونوعية الفساد, إلا أن الحكومة المصرية قد خالفت غالبية دول العالم في طبيعة تشكيل اللجنة وفي صياغة تعريفاتها لمفاهيم الفساد والنزاهة والشفافية.
فبخصوص الهيئات واللجان التي تم تشكيلها لمكافحة الفساد في بعض الدول, نجد أن مبادرة بلغاريا كانت نابعة من منظمات المجتمع المدني, التي قامت بإنشاء هيئات غير حكومية لمراقبة ومتابعة الفساد في البلاد. وفي الهند, كانت الاستجابة لرغبة الشعب في القضاء علي الفساد والمشاركة الإيجابية وعدم ترك هذه المهمة علي عاتق الحكومة وحدها. وفي المكسيك اتخذت الحكومة عدد من الخطوات لمكافحة الفساد منها: إنشاء وحدة إدارة مشروع ##مكافحة الفساد## بوزارة الإدارة العامة, والسماح بإنشاء ##الهيئة الفدرالية للحصول عل المعلومات## وهي هيئة مستقلة تعمل علي حصول المواطن علي المعلومات والبيانات الحكومية.
وتعتبر تجربة سنغافورة من أنجح التجارب الدولية في مكافحة الفساد, حيث تحتل المرتبة الرابعة بين دول العالم طبقا لتقرير منظمة الشفافية العالمية. ويرجع هذا النجاح إلي عدة عوامل منها: وضع استراتيجيات وآليات جادة لمحاربة الفساد.ورفض المجتمع المدني للفساد كوسيلة للعيش.ونزولا علي رغبة السلطة والمجتمع المدني, فقد قامت سنغافورة بإنشاء ##مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد## والذي يعتبر هيئة مستقلة عن الشرطة, تقوم بالتحقيق في وقائع الفساد سواء في القطاع العام أو الخاص.
أما مصر فقد دأبت علي تفريغ مثل هذه المنظمات من مضمونها وذلك بتركيزها علي تشكيل لجان حكومية أو شبه حكومية كما هو الحال في المجلس القومي لحقوق الإنسان, والمجلس القومي لرعاية الطفولة والأمومة, ومركز المعلومات, ومركز العقد الاجتماعي, لتحول دون اضطلاع منظمات المجتمع المدني بدور مستقل في مثل هذه الأمور.
وتتضح الصورة بشكل جلي في صياغة التعريفات التي وضعتها اللجان الرسمية للمؤشرات والمفاهيم بما يبعدها عن رصد الوقائع الحقيقة للفساد, فوفقا لما ورد في هذا التقرير, يقصد بالمساءلة: مسئولية الأفراد عما يقترفون من أعمال ووجوب مساءلتهم عن أدائهم الوظيفي, وما يصدر عنهم من سلوكيات وتصرفات, وبهذا نجد أن هذا التعريف يركز علي صغار الموظفين دون الإشارة إلي مسائلة الدولة أو النظام السياسي أو كبار المسئولين, ويعرف التقرير ##النزاهة## بأنها الجوانب الأخلاقية والقيم المرتبطة بقيام الموظف بأداء مهامه مثل الأمانة, والصدق, والاتقان, والحفاظ علي المال العام وصونه, وبهذا تتحول النزاهة إلي مجرد قيم أخلاقية فضفاضة يصعب قياسها.
في مقابل ذلك نجد 90 منظمة مصرية تنتشر في 10 محافظات تعلن عن تأسيس أول ائتلاف حقوقي لدعم الشفافية والنزاهة, ويصرح ياسر عبد الجواد مدير المكتب العربي للقانون بأن مشروعه ##نحو مجتمع مدني قوي لترويج الشفافية## يستهدف إنقاذ الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صدقت عليها الحكومة المصرية, وسوف يعلن الائتلاف بيانه التأسيسي خلال الفترة القادمة, كما سيصدر ##تقرير الظل## الذي جرت مناقشته أمام مؤتمر الدول الموقعة علي الاتفاقية في يناير الماضي بجزيرة بالي الإندونيسية, وسيصدر نشرة دورية عن الفساد وسبل مواجهة الحكومة, وسينشئ خطا ساخنا وموقعا إلكترونيا لتلقي شكاوي المواطنين واتخاذ مواقف بشأنها مع صانعي القرار.
وعلي صعيد آخر تعقد مجموعة من الجمعيات الأهلية, وبعض رجال الإعلام, وممثلون عن القطاع الخاص ورجال الأعمال ورش عمل, في إطار مشروع ##دعم مبادرات الشفافية والمساءلة## الممول من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية, وبالتنسيق مع وزارة التنمية الإدارية, توطئة لعقد مؤتمر عن ##دور منظمات المجتمع المدني في تعزيز الشفافية والمساءلة العامة## وقد توصلت هذه الأطراف لصياغات أولية لمفاهيم الشفافية والمساءلة نجد أنها أكثر تعبيرا ومصداقية, وسوف يكون لها دور أوسع في رصد أوجه الفساد.
فمفهوم ##الشفافية## يقوم علي الوضوح التام والصراحة في البيانات والمعلومات, علي أن تكون هذه البيانات صادقة ومكتملة دون إخفاء لأي جزء من الحقيقة, وكذلك وضوح الأهداف والسياسات والقرارات وجميع العمليات, مع إتاحة أكبر قدر من حرية التعبير عن الرأي, وضرورة الاستماع لكل الآراء.ومفهوم ##المساءلة## يتضمن طلب الاستفسارات والتبريرات المبنية علي الوعي والتمكين من المسئولين ومتخذي القرار, من خلال آليات واضحة للمراجعة وكشف الانحرافات بهدف تقويم الأداء ومحاسبة المسئولين دون تمييز.
أن حصر الفساد في الجانب الإداري فقط, دون النظر إلي أشكال أخري مثل الفساد الناتج عن الزواج بين المال والسياسة وهو الأشد خطرا علي المجتمع فهو مرض كامن في بنية العلاقات الاجتماعية, وهو الجزر الحقيقي والسند الذي يحمي كل أشكال الفساد, من هنا نجد أن تشكيل اللجان الرسمية ليس كاف للتصدي لكافة أشكال الفساد, فالأجهزة الرسمية ضليعة بحكم دورها في اتخاذ القرارات بما يجعلها تأخذ موقف الدفاع وتبرير إخفاقات الجهات الرسمية.
أما منظمات المجتمع المدني فهي الأقدر علي كشف أوجه الفساد بحكم استقلالية موقفها بعيدا عن الأطر الرسمية, كما أنها تستطيع لعب دورا كبير في نشر ثقافة الشفافية وصياغة تعريفات أكثر مصداقية قادرة علي رصد كل أشكال الفساد, وتمكين كل أطراف التنمية من مساءلة كل المشاركين في صنع كل أنواع الفساد بدون تمييز.
نقلا عن شفاف الشرق الأوسط