في مارس 2008 كتبت مقالة بعنوان ## مصريون ضد التمييز الديني:آمال ومحاذير## تناولت فيها الآمال المعقودة علي هذه الجماعة الواعدة والمتفردة باسمها ورسالتها في المنطقة العربية, وكذلك تناولت عددا من المحاذير التي يمكن أن تجهض عمل هذه المجموعة أو تدمرها من داخلها وتفرغ رسالتها من محتواها ومضمونها.
في الشهور الأخيرة لاحظت أن بعض من هذه المحاذير قد أخذت طريقها إلي داخل المجموعة , وقد بدا ذلك لي بأنه اختبار حقيقي للمجموعة, إما أن تعيد بناء نفسها علي أسس واضحة ولا لبس فيها, وإما أن يجري عليها ما جري علي العديد من الجماعات المصرية الأخري التي تحولت إلي أصداف خاوية.
من المحاذير التي تناولتها في مقالتي السابقة فكرة التوازن في معالجة التمييز الديني في مصر, وهي سياسة مقيتة مفادها, أن هناك تطرفا في الجانبين المسيحي والمسلم, وبأن المسئولية بالتبعية يتقاسمها الطرفان والنتيجة تبرئة الدولة من مسئوليتها الدستورية وتبرئة الجناة من الجرائم المرتكبة وتبرئة الأغلبية من مسئوليتها الاخلاقية وضياع العدالة وتحويل قضية التمييز والاضطهاد الديني إلي قضية مزمنة غير واضحة المعالم.وحول هذا الموضوع لي عدد من الملاحظات:
هناك فرق بين التمييز والاضطهاد وجرائم الكراهية وبين التصرفات الفردية, فمثلا ما وقع علي السود في أمريكا لا يختلف اثنان علي توصيفه بأنه تمييز علي أساس اللون وجرائم كراهية علي أساس اللون. ليس معني ذلك أن السود كانوا مجموعة من الملائكة أو حتي لم يرتكبوا جرائم بدافع الكراهية أو رد الفعل , ولكن من يحاول توزيع المسئولية علي الطرفين هو شخص غير أمين يسعي لتكريس التمييز وليس لحله.
نفس الشئ ينطبق علي الأغلبية المسلمة السنية والأقليات الدينية والمذهبية في مصر, التمييز يأتي من الأغلبية والحكومة والإعلام والتعليم والنظام العام الذي وضعه الأغلبية والعكس غير موجود, فلا يعقل أن يقال إن هناك تمييزا ضد الأغلبية المسلمة السنية من الأقباط أو من البهائيين أو من الشيعة , وليس معني ذلك أن هذه الأقليات مجموعة من الملائكة, ولكن يعني بأن ما يرتكبه بعض أفرادها يصنف أخطاء شخصية, ونفس الشئ ينطبق علي الجرائم, فالكثير من الجرائم التي كانت تحدث ضد السود هي جرائم كراهية, ومنها بالطبع ما هو جرائم جنائية عادية, ولكن ما يحدث من السود ضد البيض لا يصنف جريمة كراهية, ولكن جريمة جنائية حتي ولو كانت الدوافع كراهية, فتوصيف الجريمة يتم بناء علي توصيف الوضع … والوضع هو تمييز من الأغلبية ضد الأقلية.
المنظمات التي قامت لمحاربة التمييز في أمريكا وغيرها لم يكن من مهامها رصد الجرائم الفردية ضد الأغلبية التي يرتكبها افراد من الأقليات, وإنما مقاومة التمييز وجرائم الكراهية التي تأتي من الأغلبية ضد الأقلية.أما ما يرتكب ضد الأغلبية من تصرفات أو جرائم فردية فليس مكانها منظمات مناهضة التمييز وإنما القانون العادي, لأنها جزء من السلوك البشري في كل المجتمعات الإنسانية.
مناهضة التمييز هي في الأساس إدانة للأغلبية المسيطرة ولحكومات الأغلبية ولفكر الأغلبية ولثقافة الأغلبية, فهل يتصور أحد أن الأغلبية ستتنازل طوعا عن ميزات حصلت عليها علي حساب الأقلية من تلقاء نفسها؟
يخطئ من يظن أن مقاومة التمييز الديني في مصر هي إدانة للإسلام, ولكن في الحقيقة هي إدانة للتخلف والتعصب والإرهاب الديني,فالمعركة ليست معركة مسيحية إسلامية, ولكن معركة العدل ضد الظلم والحداثة ضد الأصولية والتمدن ضد التخلف والتنوير ضد الجهل والجمال ضد القبح.نعم ورقة الدين تستغل كمصدر للتمييز والعنف, ولكن ذلك حدث في كل الأديان من قبل ولم تتخلص المجتمعات الإنسانية من هذه الجرائم بالدفاع عن الدين وتبرئته من أعمال العنف, وإنما بتخليص الدين من قبضة مستغليه بفصله عن الدولة والسياسة, ومن هنا لا جدوي من دفاع البعض عن الإسلام بأنه غير مسئول عن هذا التمييز, ولكن من يريد حقا أن يدافع عن دينه عليه أن يبعده عن المجال العام للسياسة وعن النظام العام للدولة التي يجب أن يكون مجالا مدنيا خالصا.
حذرت في مقالتي السابقة من أن غياب الرؤية الواضحة للمجموعة أو عدم إنجاز شئ ملموس لصالح مقاومة التمييز الديني سيؤدي إلي خروج أو ابتعاد العديد من الشخصيات المحترمة, وهذا ما حدث بالفعل ونأمل أن يعاد تقويم مسار المجموعة قبل أن يخرج الباقون.
وخلاصة القول إن علي المجموعة أن تتفق وتوضح بجلاء في رؤيتها الاستراتيجية التي تناقشها حاليا, بأنه لا يوجد تمييز ديني ضد المسلمين في مصر, ومن ثم لا تلتفت إلي بعض التصرفات الفردية من الأقلية, لأن هذه التصرفات ليس مكانها مجموعة مصريون ضد التمييز الديني وإنما جهات أخري, ولأن مهمتها الأساسية هي مقاومة التمييز ضد هذه الأقليات وعليها أن تسعي لبلورة خطة واضحة المعالم لمقاومة هذا التمييز.
ولكن قد يقول قائل: وما الفائدة التي تعود علي المسلم من الانضمام لجماعة هدفها الأساسي مقاومة التمييز من الأغلبية المسلمة ضد الأقليات غير المسلمة؟.
الإجابة: مثل الاستفادة التي عادت علي الشخصيات البيضاء التي تبنت مقاومة التمييز ضد السود في أمريكا والتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
خلصوا بلادهم من هذا العار وساهمو في تقدم أوطانهم وعملوا ما يتسق وضميرهم الإنساني, وفي النهاية خلدهم التاريخ كعظماء, لأنهم دافعوا عن الضعفاء والمضطهدين , وهل هناك مهمة أنبل من الدفاع عن المضطهدين والضعفاء؟
[email protected]