كل العالم يعرف أن موزاييك الشعب العراقي يجمع مختلف الأطياف الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية, وهي في أغلبها من أقدم الأعراق البشرية في الشرق الأوسط, إذ توطنت العراق منذ آلاف السنين بحكم جغرافيته المركزية, وتاريخه المتنوع.
وهو من أثري بلدان الشرق الأوسط بالأقليات السكانية التي عاشت جنبا إلي جنب الأكثريات في مجتمع متنوع الأطياف لم يعرف الصراعات الاجتماعية أبدا, إذ كان التعايش والانسجام يسود بين كل الناس, وعلي درجة عالية من الاحترام والتعاون وهم يواجهون معا كل التحديات الصعبة التي مرت عليهم, بل وكان من المعيب أن يطلق عليهم مجموعة أقليات, إذ كانوا مواطنين لهم حقوقهم وواجباتهم. وإذا كان للبعض مشكلاته مع الدولة, فإننا لم نجد أية مشكلات مع المجتمع نفسه..
ويخبرنا كل من التاريخ والمجتمع معا, أن الأقليات السكانية العراقية عاشت عبر الدهور متميزة بأنشطتها وحيويتها وأمانتها وإنتاجها وإجادتها العمل ومهاراتها وحذاقتها في مهن عديدة, بل وشارك العديد من أبنائها كعراقيين وطنيين بسيرورة النهضة العربية ومشروعات تقدم العراق في القرن العشرين.
إن السياسات الخاطئة التي ارتكبت في العراق بعد احتلاله عام 2003, باستخدام خطاب المكونات الأساسية الثلاثة (شيعة وسنة وأكراد) بديلا عن خطاب وطني يجمع الجميع تعد إهمالا مريعا جري للأقليات التي لم تنفعها انتماءاتها الدينية والعرقية أساسا, فوجدت نفسها لأول مرة ضائعة في بحر متلاطم الأمواج من احتكار القوة والأرض والإرادة علي أيدي الأكثريات التي استخفت بالأقليات التي وجدت نفسها منقسمة إزاء القوي المتصارعة..
إلي هنا والأمر قابل للمعالجة, ولكن أن يتحول التهميش إلي القتل والنفي والتهجير للأقليات العراقية وبوسائل إجرامية ومن دون معرفة الأسباب ومن دون الكشف عن حيثيات ودوافع ذلك ضمن أجندة سياسية خفية, فإن هذا كله يعد مأساة تاريخية لابد أن يعرف بها العالم كله.
تخبرنا التقارير الواردة قبل أيام أن الأقليات السكانية العراقية قد زادت معاناتها من الاضطهادات والقمع والقتل والملاحقات التي لا يمكن تخيلها أبدا, ولقد ازدادت بشكل مخيف في كل العراق… إن المأساة التي يعاني منها الصابئة المندائيون في جنوب العراق, أو المسيحيون: الكلدان والسريان والآشوريون والأرمن في شمال العراق.
وبالذات في الموصل.. فضلا عن معاناة طوائف اليزيديين والشبك في إقليم الموصل يجعلنا نتساءل عن أسباب استئصال هذه الأقليات التي عاشت طوال تاريخها مسالمة مع الآخرين, ومتعايشة مع الأكثريات كالعرب والأكراد والتركمان.. فمن له مصلحة حقيقية في تهجير الصابئة والمسيحيين النصاري أو تهديدهم بالقتل وتنفيذ القتل بهم عمدا مع سبق الإصرار والترصد؟
لقد زادت المناشدات اليوم من قبل من تبقي من هذه الأطياف السكانية, وخصوصا نصاري الموصل لإنقاذهم من الموت ورصد الجناة الذين يقتلون ويلوذون بالهرب, وتزداد نكبة هؤلاء من دون أي رادع دولي ولا أي إجراء حكومي.. إن قوي مسلحة تفرض هيمنتها علي الشارع في مدن معينة من دون أي سيطرة ولا أي نفوذ رسمي, لتعبث بمثل هذه الأقليات وترتكب الجرائم المروعة باستخفاف ورعونة.. لقد تعرض العديد من الكنائس والأديرة والمعابد القديمة إلي هجومات مسلحة وتفجيرات متتالية..
وليس هناك أي وثائق مكشوفة تشير إلي أي مسئول عن تلك المجازر والتفجيرات.. بل وكم طالب المسيحيون بالكشف عن أسرار مصرع المطران المار فرج رحو الذي قتلوه بعد خطفه (مارس 2008)؟ من دون أي استجابة تذكر من قبل المسئولين لا العراقيين ولا الأمريكيين.. إن التقارير الدولية تشير إلي أن نسبة المسيحيين العراقيين كانت 10% لتغدو اليوم 4%, بسبب الهجرة القسرية لهم إلي شتات العالم.
وفي العراق, فإن ما يحصل للمسيحيين, يحصل للصابئة المندائيين الذين تضرروا جدا من الملاحقات والتفجيرات. إن استمرار هذا الماراثون من مشروعات قتل العراقيين, لابد أن يتوقف نهائيا. إن تقريرا وصلني اليوم من الأستاذة ميسون الدملوجي النائبة في البرلمان العراقي تذكر فيه اضطرار أعداد كبيرة من الصابئة المندائيين إلي مغادرة العراق بعد أن تعرضت الطائفة إلي أعمال قتل واختطاف وتكفير, وقل عددها من 65.000 عام 2003 إلي حوالي 3.500 اليوم. لا يريد أحد ممن التقيت معه (في الأردن) العودة إلي العراق, ويعتبرون التعايش في ظل غياب سلطة القانون أصبح مستحيلا.
ولاسيما بعد تراجع مبدأ المواطنة وسيادة دولة الطوائف. ويضيف التقرير أن معاناة هؤلاء خارج العراق لا تطاق, إذ يلحق بهم الأذي في مجتمعات عربية إذ يعتبرونهم كفارا مارقين! ناهيكم عن حياتهم المنهكة, فهم من الفقراء المعدمين الذين لا يملكون ما يسدون به رمقهم. إن الأقليات العراقية بحاجة ماسة إلي الأمن والحماية, فلا يمكن استئصالهم أبدا بحجة كونهم كفارا أو مارقين.. وإن الأحزاب الدينية العراقية مطالبة كلها بإعادة النظر في مثل هذه المسألة..
إن أغلب الأقليات العراقية قد انقسمت اليوم علي نفسها للأسف الشديد, جراء ضعفها إزاء قوي الأكثريات التي كان تصنيفها سببا في الانقسامات الحاصلة اليوم. ومن هنا, نناشد الحكومة العراقية وكل المسئولين باتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية العراقيين كلهم, وملاحقة الجناة, والكشف عن أسرار كل الجرائم..
كما ونناشد الضمير الإنساني في كل العالم أن يقف وقفة مشرفة إزاء مجتمع عريق مزقته التفرقة, وبعثرته سياسات المحتل بعد تاريخ طويل من المكابدات والحصارات والحروب والديكتاتورية.
مؤرخ وأكاديمي عراقي مقيم بكندا