أتاحت الأزمة المالية في أمريكا لمختلف أنواع الناس ــ بدءا من قادة النقابات العمالية البريطانية وصولا إلي حكام البنوك المركزية الآسيوية والرئيس الفرنسي ــ أن يعلنوا أننا نشهد نهاية الرأسمالية المتساهلة والأسواق الحرة. لكن هذا غير صحيح. لنعد إلي الوراء, ونأخذ نفسا عميقا ونضع ذلك في سياق تاريخي. ما يحدث الآن هو أزمة مالية حادة لم نشهد مثيلا لها منذ ثلاثينيات القرن الماضي. إنها تؤدي إلي تباطؤ حاد للاقتصاد الأمريكي. وتداعياتها تنتشر في أنحاء العالم. الأمر بغيض لكنه تكرر من قبل. فتاريخ الرأسمالية حافل بأزمات الائتمان وحالات الهلع والانهيارات المالية والركود. هذا لا يعني نهاية الرأسمالية. لكنه قد يعني, من ناحية ما, نهاية سيطرة الولايات المتحدة علي الأسواق العالمية.
الأزمة الحالية كبيرة بكل المعايير التاريخية. علي الحكومة أن تخوض تجربة التدخل بشكل مكثف في السوق إلي أن تبدأ القروض بالتدفق بسلاسة مجددا. لكن هذه الخطوات أصبحت جزءا لا يتجزأ من الرأسمالية العصرية. يوم الاثنين الماضي, انخفض مؤشر داو جونز 778 نقطة, أي ما يوازي خسارة بنسبة 6.9 بالمائة. يوم الاثنين الأسود من عام 1987, انخفض مؤشر داو جونز بنسبة 22.6 بالمائة. هذا أدي إلي إقرار قوانين جديدة للحد من تقلبات سوق الأسهم. في كل الأزمات المالية تقريبا التي حدثت في أنحاء العالم خلال السنوات الـ30 الماضية ــ وقد حصل العشرات منها ــ توجب علي الحكومات التدخل لإعادة الثقة.
هذه الخطوات أرست الاستقرار في النظام الرأسمالي بأكمله. ما من مجتمع حديث يمكنه تقبل الانهيارات التي كانت معتادة في البلدان الغربية في القرن الـ19, وهي حقبة شهدت تدخلات أقل بكثير. بين عامي 1854 و1919, كانت فترات الركود تدوم نحو 22 شهرا. خلال العقدين الماضيين, دامت فترات الركود حوالي ثمانية أشهر. وبين عامي 1854 و1919, كان الاقتصاد الأمريكي ينكمش كل 49 شهرا كمعدل. لكن خلال العقدين الماضيين, مر 100 شهر قبل حدوث انكماش. وقد ساهمت عوامل عدة في هذه التغييرات لكن العوامل الأساسية كانت السياسات المالية والاقتصادية التي اتبعتها الحكومات.
هل تعني التدخلات الحالية العودة إلي فرض الحكومة قوانين ورقابة علي الأسواق؟ قبل 40 عاما, كانت الحكومات في معظم البلدان تسيطر علي العملة الوطنية وهي التي تحدد سعر صرفها. وغالبا ما كانت تمتلك مصانع للفولاذ وشركات لتصنيع السيارات وشركات هاتف وبنوكا. وكانت تحدد أسعار تذاكر السفر بالطائرات وتعرفة المكالمات الهاتفية والعمولات المفروضة علي عمليات شراء وبيع الأسهم وأسعار الأسمنت. كانت الرسوم الجمركية أعلي بكثير مما هي عليه الآن في العالم الصناعي. هل يعتقد أحد أننا نعود إلي حقبة كهذه؟
لا يمكننا ذلك. فالرأسمالية أصبحت الآن ظاهرة عالمية, تحركها أعمال الشركات والحكومات في كل أنحاء العالم. سوف تستمر البلدان بالاعتماد علي الأسواق الحرة والتجارة الحرة في سعيها لتحقيق النمو ورغبتها في رفع مستوي المعيشة . خلال العقود الثلاثة الماضية حررت البلدان أسواقها, ليس لأن أشخاصا مثل بوب روبن أو هانك بولسون أجبراها علي ذلك, بل لأنها كانت قادرة علي رؤية المنافع الآتية من اتباع ذلك المسار (وتكلفة عدم القيام بذلك). هذه الحركة ستظل تشهد تقلبات ودورات وستبقي عرضة للضغوط السياسية. لكنني أراهن علي أنه في السنوات الـ20 المقبلة, سيزداد عدد البلدان التي ستحرر أجزاء من اقتصاداتها (بشكل مضبوط) بدلا من تأميم أجزاء منها.
ستكون التداعيات الحقيقية للأزمة المالية فقدان النفوذ الأمريكي لشرعيته. في الماضي, كان الناس في كل أنحاء العالم يرون أن الولايات المتحدة تمثل الاقتصاد الأكثر عصرية ورقيا وإنتاجية في العالم. وهم يتساءلون الآن هل كان ذلك مجرد وهم؟ كانوا يصغون باحترام وحتي برهبة إلي صانعي السياسات الأمريكيين. أما اليوم فيتساءلون إن كان هؤلاء المسؤولون يعرفون ما يفعلون. وسيكون لفقدان المصداقية هذا عواقب وخيمة. قبل أسبوعين قال الباحث والمحلل زاكاري كارابيل علي شبكة سي. إن. إن: ##سنتذكر هذه الفترة علي أنها لحظة خروج أهم الاستثمارات العالمية من الولايات المتحدة##. طوال عقود, اجتذبت الولايات المتحدة كميات هائلة من رؤوس الأموال ــ 80 بالمائة من المدخرات الفائضة في العالم ــ مما أتاح لها أن تتبع نمط حياة يفوق قدراتها الحقيقية. هذه الحقبة تشارف علي نهايتها. وسيتوجب علي أمريكا أن تكافح لاجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات مثل أي بلد آخر.
في عالم الرأسمالية التنافسية, تحتاج الاقتصادات إلي حكومات ذكية وليس إلي حكومات كبيرة أو حكومات غير فعالة. نحن لسنا في سباق نحو الحضيض فيما يتعلق بالأجور والقوانين وغير ذلك. لكننا نتنافس ضد دول أخري للتوصل إلي السياسات الحكومية التي تعزز النمو والإبداع والإنتاجية بأفضل طريقة. حان الوقت لمعرفة ما هي الوسائل الفعالة, وليس لمعرفة ما هي الشعارات الإيديولوجية التي يجب تكرارها. إنه عصر مايكل بلومبيرج وليس مارجريت تاتشر.
عمل الحكومة في أمريكا اليوم خاطئ إلي حد كبير. لدينا مجموعة غير مترابطة من القوانين السيئة والإعانات والتدخلات العشوائية. هدف السياسات هو إرباح الناخبين النافذين وليس تحفيز النمو علي المدي الطويل. لدينا نظام العناية الصحية الأغلي والأقل فعالية في العالم الصناعي واستعمالنا للطاقة هو الأكثر تبذيرا, ونسبة ادخارنا هي الأدني, والبني التحتية لدينا هي الأسوأ صيانة, ولدينا نظام ضريبي معقد وفاسد. لقد تقدمنا بالرغم من هذه المشاكل لأن النظام عموما كان ديناميكيا وكان سكان العالم يتطلعون إلي أمريكا باعتبارها مكانا يضعون فيه مدخراتهم وإيمانهم. لكن فترة استغلال أمريكا لمكانتها في العالم تشارف علي نهايتها. وقد آن الأوان لإعادة النظر بجدية في الأمور.
نيوزويك