يتميز الأديب المصري سمير عبد الفتاح -هناك أديب يمني متميز بنفس الاسم- بأنه قادر علي تطويع اللغة ليقول ما يريده,وذلك من خلال إصداراته الكثيرة وخاصة روايته ”خيانات شرعية” ومجموعته القصصية ”حارس الغيوم”.أما في مجموعته (الروائية الجديدة) ”عشرة دروس من بيتنا القديم-أربع روايات قصيرة” فيقدم عبد الفتاح عشرة دروس روائية -سبعة دروس بالإضافة إلي درس محروس الثامن عشر ودرس الكائن والمكنون ودرس بندق- تعلمها البطل من أبيه أو غيره,أو كما يقول سمير عبد الفتاح في الدرس الأول: ”اثنان علماني القراءة والكتابة:الشيخ مهدي والأستاذ عهدي
واثنان علماني كيف أجيد القراءة والكتابة:يوسف إدريس…وبابلو نيرودا
واحدة فقط علمتني كيف أحبو علي أربع:أمي التي تحت التراب!
عشرون علموني كيف أجري:كل القطط والكلاب التي طاردتني في طفولتي!
واحد وعشرون علموني الأدب..وواحد وثلاثون لم يعلموني الأدب
أربعون علموني كيف أسبح واثنتان علمتاني:كيف أغرق
خمسون علموني كيف أقدم قلبي,ومليون علموني كيف أكتفي بربع قلبي…وثلث عقلي.
واحد فقط علمني كل ذلك:أبي الذي في الأرض”.
تحتوي الأربع روايات القصيرة علي العديد من العناوين:سبعة دروس,ومحروس الثامن عشر,والكائن…والمكنون,وبندق,وذلك في ”124” صفحة من القطع الصغيرة ضمن إصدارات قراءة للنشر والترجمة.وهناك خطأ في طباعة الكتاب,يمكن أن يكون مقصودا!.الغلاف الأمامي للكتاب يحمل عنوان ”عشرة دروس من بيتنا القديم”,أما الصفة الأولي تحمل عنوان: ”عشرة دروس من بيتنا الكبير”.فهل يقصد سمير عبد الفتاح البيت القديم أم البيت الكبير؟!.
سبق وصدر لعبد الفتاح بعض الإصدارات منها :سبع وريقات شخصية لعامل الحويلة المنتحر (مجموعة قصصية-هيئة الكتاب 1993).تطهر الفارس القديم (مجموعة قصصية -سلسلة أدب الحرب- هيئة الكتاب 1996),حارس الغيوم (مجموعة قصصية -هيئة قصور الثقافة- سلسلة أصوات أدبية 1999),البعد الغائب (دراسات في القصة والرواية -دار الحضارة العربية 2000),خيانات شرعية(دار قراءة للنشر والترجمة2005).
ومن نص الكائن والمكنون…معراج أول نقتطف الفقرة الأولي التي تقول:
”حينما اختارني الضرير لأدله علي الطريق,لم تستعفني الحيل,أو تواتني الوسيلة.لكنه اختارني -أنا العازف العزوف- من بين ملايين البشر لأدله إلي مبتغاه! ولما كان عنوانه -كما أخطرني- في طريقه,فقد استسلمت لكفه اللزج المشعر,وفي نيتي أن أفر هاربا,حالما تتأتي الوسيلة,أو يخايلني الأمل!
ويبدو أنه شعر بذلك,لأنه قبض علي معصمي وكأنني هارب من الإعدام,وما كدت أقول ما كنت أنوي قوله,حتي ضغط علي كفي دون أن ينطق بكلمة يمكن تأويلها…أو الاختباء تحت ظلها…كان أمرا باترا…حادا كسيف,لكنه ناعم…وحويط!!
وقبل أن تغرب الشمس,سألني -فجأة- عن اسمي وعنواني وقال إن غرائب الدنيا كثيرة…أغربها الإنسان…وحين عرف أنني قطعت كل هذه المسافات لأزور صديقي الضرير,تعجب من أمري,وتساءل عن الضرورة التي تدعو مبصرا لزيارة ضرير؟
وقبل أن أبدي أي ملاحظة أو اعتراض,سحبني إلي محل لبيع المشروبات وأمرني بالانتظار,حالما يأتي بكوبين.
وما كدت ألتفت حولي,وأفكر في الفرار إلي أي ناحية,حتي رأيته يرفع في وجهي كوبا من العصير,تتواتر علي حافته الفقاقيع.
-اشرب.!!
وما كدت أفعل ذلك حتي شعرت برغبه في التقيؤ…وتحجر في الحلق,وقبل أن أفكر في سكب ما تبقي,سمعته يصيح وهو يوليني ظهره:
-أكمل كوبك.
فشككت في أمر عماه…لكن الجرأة لم تواتني كي أنظر في عينيه اللتين ربما كانتا مبقورتين,أو تشبهان ”أم الخلول” في لزوجتهما واختلاطهما,لكني استطعت -في غفلة منه- أن أسكب ما تبقي.فكانت دهشتي لا تحتمل حين خاطبني ونحن نواصل الطريق محذرا:-لا تفعل ذلك مع غيري!
إذ لم تواتني الجرأة لأساله عما يعنيه,لكني فهمت أنه فهم,وأن مأزقي قد بات وبيلا…وأنني لا أملك ما يدير به دفتي,فأردت أن أتجه صوب اليمين لكنه وجهني صوب اليسار!
وقبل أن أعترض أو أقول,ضغط علي كفي بيده التي تشبه كف الدب وقال: ”لا تخف…فكل الطرق تقود إلي ما تبغي”!!
ثم سألني هامسا:إن كنت أهتم بالتاريخ,أو العلوم,أو السياسة,أو الخمور,أو النساء,فأشرت إلي أنني لا أهتم إلا بجلدي…فاستحسن صمتي,واشتكي من الحر والرطوبة,فشكوت من البرد.والرماد.
كان عنوان صديقي قد غرق في لزوجة كفي,فشعرت بأنني ضللت الطريق وبات معراجي بلا نهاية!
وما كدت أشكو حيرتي,حتي طمأنني علي الفور وقال: ”لا تخف…أنت معي”!! ولما أشرت إلي حلول الظلام,وخوفي من أن نصبح ضريرين,صاح منتصرا: ”لك النهار ولي الليل كله”.ثم طلب أن أقرأ العنوان فقلت: ”ما أنا بقارئ”.
فتدبر أمره,وقال: ”خسارة” ولم أعرف علي من انصبت الخسارة بالضبط!
كان قد طلب الورقة,فقدمتها معجونة بلزوجة كفي,وأسرعت بوضع يدي في جيب سروالي المثقوب.
تحسسها بيده الأخطبوطية,وأعادها قائلا:
-نعم…نفس العنوان…ألم أقل لك؟.
ثم قال كلاما كثيرا فهمت منه أن الحبر قد ساح,وأن علي أن اعتمد علي ذاكرتي مثلما يعتمد الصقر علي بصره:
كانت الشوارع خالية,حينما وصلنا إلي ميدان كبير…تهز الريح أشجاره وتتجمد الناس في سياراتها,واليور في أوكارها…
أشار صاحبي نحو لافتة وسألني أين نكون؟فلم أفده بشئ…
نصحني أن أسأل من يفيدنا فلم أجد أحدا..
صعدت إلي كشك للكهرباء ونزعت لافتة الشارع,وعدت إليه متأبطا إياها.قال: أحسنت يا فتي…فالمرء قرين نفسه!
وأعادني لقيده من جديد…كدت أقول شيئا…لكنني تذكرت أنني تكلمت كثيرا -منذ ولادتي- دون أن أقول الكثير!!
أوقفني قبل أن نترك الميدان,وأشار إلي جندي ينظم المرور,فأسرعت إليه فوجدته متخشبا…لكني حين تأملت أصبعه المفرود,وجدته يشير إلي ضابط بعيد,ما كدت أسأله عن الطريق حتي أشار إلي امرأة عجوز تفترش الطريق,وتقدم الشاي الحارق لرجال من خشب.رشوتها بما في جيبي فلم ترد…فعدت إلي رفيقي وبكيت…وقبل أن أخبره بأننا فقدنا الطريق…سحب اللافتة من تحت أبطي ورماها علي الأرض فتحرك الشارع,وتدفقت المياه في النوافير وحين سألته أن كان جائعا أم لا؟دفعني بغضب مضمر وعتب خفيف,قال:
-اسأل سؤال الحياة…فلا ضل من سأل!!
جريت خلف امرأة فجرت أمامي…سألت أخري فاستنجدت بالبوليس…رشوت شخصا يبدو متعلما فأخذني علي جانب ونصحني أن أهتم بنفسي,رجوته أن يدلني علي الطريق…فبكي وأخطرني أنه يبحث مثلي,لعنت ضابط المرور فسامحني…مزقت بذلته وسألته عمن أتي به إلي هنا ما دام لا يعلم ما تعلمه الدواب؟.
وقفت في نهر الشارع وخلعت سروالي…فتجاوزتني المركبات وتجاهلني البشر,صرخت في وجه الجميع…يا كلاب…يا جهلة…فلم يردني أحد,سعيت إلي صاحبي,وبكيت في حضنه…فربت علي ظهري وقال: لا تكن عبد ما تجهل…كن سيد ما تستطيع!
وسحبني فسعيت في ركابه,وارتميت في معيته!!كانت شوارع الميدان تتعامد تحت شمس حارقة,وما تكاد تبلغ نهاية حتي يبدأ مفترق جديد”!!.