هناك حقيقة اقتصادية لا تحتمل أي جدل وهي أن أي مجتمع يعاني من التخلف الاقتصادي ” وهو المرادف العلمي لمفهوم الفقر ” ستجده بالضرورة متخلفا اجتماعيا وعلميا وثقافيا وحضاريا بل ورياضيا وفنيا وأخلاقيا وحدث ولا حرج. ومن ثم يمكننا القول إن التخلف الاقتصادي (الفقر) هو أم المشاكل والمصدر الرئيسي لكل المصائب. ويؤدي الفقر ليس فقط إلي تخلف البنيان الاقتصادي والمادي للمجتمع ولكن أيضا ـ وهذا هو الأخطر ـ إلي تصدع منظومة القيم فتجد أفراد المجتمع المتخلف اقتصاديا يتسمون بالتطرف والعنف وعدم التسامح مع الآخر والأنانية وشيوع أسلوب الخلاص الفردي (أنا ومن بعدي الطوفان) وعدم الاهتمام بقضايا الشأن العام والتعايش بسلام مع الفساد والضوضاء والقذارة والأكثر من هذا انتشار الغش والتدليس في المعاملات ونهب المال العام هذا ناهيك عن استمراء النفاق والتملق والتسلق حتي ولو كان علي جثث الآخرين وعادة ما تتم محاولة ستر كل هذه الموبقات برداء ومظاهر دينية كاذبة. والحقيقة أن أفراد المجتمعات المتخلفة معذورون في كل هذا فهذه هي أخلاقيات وتبعات الفقر في كل زمان وكل مكان.
وتمثل مصر هذه الأيام وبكل أسف حالة عملية لكل ما سبق وبالرغم من هذا خرج علينا الحزب الحاكم في مؤتمره العام الأخير بشعار مستفز يقول بالعامية المصرية ”مصر بتتقدم بينا” وواضح أن صاحب هذا الشعار لا يعرف شيئا عن الشارع المصري ومعاناة المصريين أو أنه يعاني من حالة نفاق متأخرة أدت إلي إصابته بعمي البصيرة فلم يعد يميز بين الحقيقة والخيال أو أنه يحاول إلهام الناس الغلابة بأنهم يعيشون حالة تقدم لا يشعرون بها لعيب ما فيهم. هناك بالفعل حالة نمو اقتصادي في مصر ولكننا نختلف بشدة مع من يدعون أنه وصل إلي معدل 7% لعدة سنوات علي التوالي , فكما يعرف كل الاقتصاديين فإن قياس معدلات النمو بدقة مشكلة عويصة في كل الدول المتخلفة حيث تتناقض الإحصائيات الرسمية بسبب عمليات التلاعب من ناحية وغياب أساليب القياس الدقيقة من ناحية أخري بل إن مشكلة تناقض الإحصاءات هذه تشمل المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحتي المؤسسات الاقتصادية الخاصة المحترمة مثل ”The Econobist وعلي سبيل المثال فإن هذه الأخيرة في تقريرها The World in 2007 أوردت أن عدد سكان مصر 76.9 مليون نسمة بينما ورد في تقرير آخر لنفس المؤسسة يسمي بالـ ”Pocket World in Figures ” لعام 2008 والذي صدر منذ أسابيع قليلة أي خلال عام 2007 ذكر أن عدد سكان مصر 74 مليون نسمة أي أن عدد السكان تناقص بمعدل 3 ملايين نسمة تقريبا. وعلي سبيل المثال أيضا ذكر أن حجم الناتج المحلي الإجمالي بلغ 105 بلايين دولار حسب التقرير الأول أما التقرير الثاني ( الأحدث ) فقد ذكر أنه 89.4 بليون دولار! كما ذكر التقرير الأول أن معدل التضخم بلغ 5.8% فقط بينما يتحدث التقرير الأحدث عن 5.3% , أما الجهاز المركزي للإحصاء في مصر فقد ذكر أن هذا المعدل وصل إلي 11.5%.
ويمكنني أن أضرب المزيد من الأمثلة ولكن ليس هذا هو غرض المقال وإنما الغرض هو التنبيه إلي وجوب التعامل بحذر مع الإحصاءات التي تصدرها الحكومات المستبدة والفاسدة في منطقة الشرق الأوسط.
أقول مرة أخري إن هناك حالة نمو في الاقتصاد المصري ولكن المشكلة أنه نمو محدود ويحتاج إلي عملية تصويب كبيرة حتي يستمر, كما أن ثمار هذا النمو لا توزع بشكل عادل ويستأثر بها أصحاب رؤوس المال وهؤلاء لا يتجهون عادة إلي القطاعات الإنتاجية وإنما يركزون بشكل أساسي علي قطاع الخدمات مثل الاتصالات والمشاريع السياحية والخدمات المالية وحتي عندما يتجهون إلي بعض الخدمات الحيوية مثل الصحة والتعليم فإنهم يتجهون إلي أصحاب الدخول المرتفعة فيقيمون الجامعات والمدارس الخاصة والمستشفيات الفاخرة ذات الرسوم المرتفعة.
إن كل الخبراء الاقتصاديين ـ ماعدا خبراء حزب وحكومة الأغلبية ـ يعرفون أن سياسات التنمية الاقتصادية المستدامة كانت تركز في الماضي وحتي وقت قريب علي تعزيز الإدخار وتراكم رأس المال المادي أما الآن فإن الاهتمام أصبح ينصب علي رأس المال البشري من خلال الاهتمام بالصحة والتعليم خاصة لذوي الدخول المنخفضة وهم يمثلون مالا يقل عن 80% من الشعب المصري.
وقد يري البعض أنني أبالغ بالقول إن أصحاب الدخول المنخفضة يصلون إلي 80% وهؤلاء البعض يقولون دائما انظروا إلي المراكز التجارية في مصر والمسارح والسينمات وسوف ترون أنها مليئة بالكامل وهذا دليل علي رخاء مصر ونحن نرد عليهم بأنها مليئة بالفعل ولكن بنسبة الـ 20% القادرة والـ 20% هذه تعني حوالي 15 مليون مواطن من مجموع شعب مصر وهؤلاء قادرون بالفعل علي ملئ هذه الأماكن والإيحاء بأن المصريين كلهم في حالة غني ورغد ولكن الحقيقة غير هذا تماما. ويمكنك أن تلمس حالة الفقر والمعاناة التي تكابدها أغلبية الـ 80% عندما تزور صعيد مصر وتزور الأحياء الشعبية والعشوائية في القاهرة وكل المدن المصرية والمدارس والمستشفيات الحكومية والمواصلات العامة… إلخ.
كما يلاحظ أيضا ـ وهذا حال معظم الدول العربية ـ أن عملية النمو الاقتصادي في مصر مصحوبة بمعدل عال للبطالة وبحالة تضخم جامح أدت إلي اتساع الهوة بين أصحاب الدخول المتغيرة وأصحاب الدخول الثابتة ( الموظفون عادة) وهؤلاء لا يستطيعون تصدير التضخم في الأسعار إلي غيرهم عكس أصحاب الدخول المتغيرة. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الحكومة المصرية تلجأ في الغالب إلي سياسة التمويل بالعجز أو التوسع النقدي غير المحسوب لمقابلة التزاماتها وقد قرأت أخيرا أن حجم عجز الموازنة المصرية وصل إلي 54 مليار جنيه وهو يقدر بنسبة 10% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة مرتفعة جدا بالمعايير الدولية والتي تقدر حجم الأمان بـ 3% وعادة ما تلجأ الحكومة إلي الاستدانة والتوسع النقدي عندما يصل العجز إلي هذه النسبة وهذا هو تقريبا سبب حالة التضخم الجامح في مصر التي تزيد أوضاع الفقراء سوءا.
ومنذ أيام قليلة توقفت في مصر لمدة يوم واحد وكالعادة طالعت الصحف المصرية وكانت كلها تتحدث عن اجتماع مهم حضره الرئيس مبارك لا أتذكر ما هو ولكن ما أتذكره أنه صرح في هذا الاجتماع بأنه ينحاز بالكامل إلي الفقراء !! ولا أدري كيف سيكون حال الفقراء لو أن الرئيس تركهم وانحاز للأغنياء؟.
وأخيرا وفي ظل تسارع عملية اندماج الاقتصاديات المحلية في منظومة العولمة التي تقوم علي المنافسة الدولية التي لن ترحم الضعيف فإنه لا مجال للنجاح لأي اقتصاد نام في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية ومستدامة إلا من خلال تحسين مستوي إنتاجية الفرد كي تتحسن القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي وهذا لن يتحقق إلا من خلال التنمية الاقتصادية الاجتماعية التي تهتم بالفرد من خلال التركيز علي الصحة والتعليم والتدريب.
[email protected]