لم يكن من قبيل المبالغة إطلاق وصف ##السونامي## علي الأزمة المالية الرهيبة التي هزت أسواق المال الأمريكية, وانتقلت توابعها وتداعياتها بسرعة فائقة إلي باقي أسواق العالم.
وهذه ليست الأزمة الأولي من نوعها التي تتعرض لها أسواق المال الأمريكية, لأن الأزمات العامة والدورية صفة لصيقة بالرأسمالية, وتحتفظ ذاكرة البشرية بتواريخ أليمة لأزمات مروعة, مثل الكساد الكبير عام 1929, خربت بيوتا وأفلست شركات عملاقة, وشردت آلاف العاملين وألقت بهم إلي جيش البطالة, وأصابت الاقتصاد في الصميم وفاقمت معاناة ملايين البشر.
ومع ذلك فإن هذه الأزمة الأخيرة ليست كغيرها من الأزمات, وعلي سبيل المثال فإن ##آلان جرينسبان## رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي المتقاعد, والذي ينظر إليه الأمريكيون باعتباره من أكبر العقول الاقتصادية في العالم, وصف الأزمة المالية الراهنة بأنها الأخطر منذ مائة عام, وتنبأ بانهيار العديد من المؤسسات المالية الكبيرة.
كما أن مجلة ##الإيكونومست##, التي تعد واحدة من أكثر الدوريات الاقتصادية رصانة وعمقا أكدت في تحليلها للموقف أن ##بنك ليمان براذرز لن يكون المحطة الأخيرة في الإفلاس وأن الأوضاع الاقتصادية في السوق المالية الأمريكية والعالمية ستتداعي##.
وهذه الأزمة الحادة ليست مفاجئة, وإنما لها مقدمات كثيرة, منها ##الفقاعة العقارية## وأزمة الإقراض في الولايات المتحدة حيث خرجت ضوابط الاقتراض عن كل المعايير المنطقية وما أدي إليه ذلك من أزمات للرهن العقاري تسببت في حالة ركود في النظام العقاري.
والأهم أن واشنطن اكتشفت -فجأة- أن ##التنظيمات التي تضبط عمل الأسواق قد تخطاها الزمن## علي حد تعبير المرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس سارة بايلن.
وهو ما اعترف به وزير الخزانة هنري بولسون الذي لم يجد مناصا من أن يقول ##إنني ألعب بالأوراق التي ورثتها.. فالآلية الموجودة لدينا لضبط القطاع المالي آلية بالية وضعت قبل زمن طويل بعد حقبة الركود عام 1929##.
هذا ##الاكتشاف## تنفي عنه صفة المفاجأة أحداث اقتصادية ومالية متعددة في السنوات السابقة برهنت علي توحش الشركات الرأسمالية العملاقة وتلاعبها بالدول والقوانين والمعايير في الوقت الذي لم تتوقف فيه عن ادعائها احتكار ##الحكمة## رغم أنه ثبت بعد ذلك أن معظم تقديراتها الاقتصادية والمالية كلام فارغ, وللأسف فإننا كنا نعمل ألف حساب وحساب لأي تقرير أو أي قصاصة ورق تصدر عن بعض هذه المؤسسات العملاقة التي ثبت في النهاية أنها نمور من ورق.
وهذا الدور المتوحش لتلك الشركات العملاقة قد تزامن هو الآخر مع صعود المحافظين الجدد وفلسفتهم ##النيوليبرالية## التي تنفي أي دور للدولة وتعتبر تدخل الدولة -بأي صورة من الصور- انتهاكا لقدس أقداس قوانين السوق ومبادئ الاقتصاد الحر.
وقد لاحظنا من قبل أن هؤلاء ##الفلاسفة## دأبوا علي توجيه الاتهامات إلي بعض الدول النامية, ومنها مصر, إذا ما فكرت الدولة بالقيام بأي تحرك في اتجاه ضبط الأسواق.
الجديد في هذه الأزمة أن زعماء الاقتصاد الحر لم يجدوا مناصا من اللجوء إلي الدولة التي طالما طالبوها بالاستقالة من الفضاء الاقتصادي تماما. بل إن عودة دور الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية بالذات أخذ صورة تقترب من فرض ##أحكام عرفية مالية## علي حد تعبير صحيفة ##فاينانشيال تايمز## حيث شملت هذه الإجراءات شراء أصول مالية وفرض قيود علي المضاربات والشراء الآجل للأسهم وغيرها. كما تم حظر عمليات البيع علي المكشوف لنحو 799 سهما بالقطاع المالي.
ومع هذه ##الأحكام العرفية المالية## سقطت النيوليبرالية المطلقة وأدبيات مدرسة شيكاغو.
وهذا درس كبير وبالغ الأهمية نرجو أن يستوعبه تلامذة هذه المدرسة المتطرفة الذين انتشروا وتكاثروا في مصر في السنوات الأخيرة وبدوا ##ملكيين أكثر من الملك## في مطالبتهم بابتعاد الدولة نهائيا وترك السوق سداح مداح.
الأمر الثاني الذي يحتاج إلي انتباهنا هو أن البيروقراطية المصرية دأبت علي اللجوء إلي ثقافة الإنكار في معظم الأزمات العالمية. وعلي سبيل المثال فإنه ما إن تقع كارثة طبيعية في أي قارة من قارات العالم تجد بيانا رسميا يصدر منذ اللحظة الأولي لوقوع هذه الكارثة يؤكد أن جميع المصريين بخير. وقد حدث شئ قريب من ذلك مع وقوع الأزمة المالية العالمية حيث أكدت مصادر رسمية أننا لم نتأثر من قريب أو بعيد.
وهذا تبسيط مخل, ولعلنا نقلع عن هذه العادة السيئة ونقوم بتشكيل هيئة علي مستوي عال تضم خبراء من مختلف المجالات ذات الصلة لبحث هذه الأوضاع الجديدة وتأثيرها علي تدفق الاستثمارات الأجنبية وبرامج الخصخصة وحركة الصادرات والواردات والسياحة واتفاقية الكويز ومعدلات التنمية وغيرها من زوايا متشابكة.. بدلا من وضع أيدينا في الماء البارد.