في احتفالية ثقافية افتتح قداسة البابا شنودة الثالث المركز الثقافي القبطي, وفكرة تأسيس هذا المركز الثقافي علي جانب كبير من الأهمية, لأن النشاط الثقافي ملازم للكنيسة القبطية منذ أقدم العصور, فقد كان عنصرا مهما وثابتا من عناصر الحياة الرهبانية القبطية, وكان الكتاب المقدس قراءته وحفظ أجزاء منه ودراسته بعمق من أهم واجبات الراهب, وقد تطرق بهم ذلك إلي التفسير واللاهوت, ومن بين الأسماء التي سجلها لنا التاريخ في هذا المجال الأسقف يوحنا النقيوسي أسقف مدينة نقيوس وهو من آباء النصف الثاني من القرن السابع الميلادي وصاحب مؤلف كتاب تاريخ العالم منذ بدء الخليقة حتي أواخر القرن السابع الميلادي, والراهب سمعان بن كليل بن أبي الفرح من آباء القرن الثاني عشر الميلادي وله مؤلف مهم في السيرة الفاضلة يحمل اسم روضة الفريد وسلوة الوحيد وقد طبع مرة واحدة في سنة 1886م, وعلم الرئاسة أبوإسحق إبراهيم ابن الشيخ صفي الدولة كاتب الأمير علم الدين قيصر المعروف بابن كاتب قيصر من رجال القرن الثالث عشر الميلادي وقد وضع مقدمة في قواعد اللغة القبطية معروفة بكتاب التبصرة في أصول اللغة القبطية وتوجد نسخة منه في مكتبة باريس الأهلية, والقس بطرس السدمنتي من آباء القرن الثالث عشر, وله العديد من الكتب اللاهوتية. ويمكننا القول إن صوامع الرهبان وأديرتهم كانت مصدر إنتاج سخي كبير, بل كانت تشكل مطابع تلك الأيام, وكان بعض الرهبان يتخصصون في تزيين هذه المخطوطات, وكان دير الأنبا شنودة بسوهاج المعروف بالدير الأبيض مهدا للأدب القبطي باللهجة الصعيدي, بينما كانت أديرة وادي النطرون مهدا للأدب القبطي باللهجة البحيري, كما سجل القديس أنبا باخوم (292 – 346م) المعروف بأب الشركة الرهبانية وتلاميذه أول نتاج في الأدب القبطي الصعيدي الأصيل أي الذي لم يترجم عن اليونانية.
هذا النشاط الواسع في التأليف والنسخ أدي إلي اقتناء مكتبات كبيرة ذاع صيتها في العالم, فجاءت البعثات من مختلف الأنحاء منذ القرن السادس عشر الميلادي تتسابق علي اقتناء تلك الكنوز, وقد فازت بالكثير منها!! وهو ما يحاول قداسة البابا شنودة إعادته إلي أرض مصر. لم يقتصر أثر النساك – كما يذكر المؤرخ الكنسي د. منير شكري – عند هذا الحد في الميدان الثقافي, بل قاموا بتلقين مبادئهم وتعاليمهم في جامعة شعبية ديموقراطية لم نسمع عن مثيل لها في التاريخ, إذ بالرغم مما في هذه التعاليم من حكم عالية وأفكار سامية, فقد كان ينهل من مواردها العذبة بسطاء القلوب من جميع الطبقات الاجتماعية علي اختلاف درجة ثقافتهم. بالعمل الذي قام به قداسة البابا شنودة الثالث بتأسيس هذا المركز الثقافي أعاد إلي الأذهان مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي تأسست في نهاية القرن الثاني الميلادي, والتي كانت ميدانا تجلت فيه بشكل واضح حيوية الكنيسة القبطية من الناحية الفكريةو مما حدا بالمؤرخ البريطاني أوليري o,leary أن يقول في كتابه عن مصر: إذا كان هناك قطر أو بلد ترك آثارا عميقة علي الديانة المسيحية فهذا البلد هو مصر, أو بعبارة أدق إذا كانت هناك مدينة من المدن كان لها أثر عميق علي الديانة المسيحية فهذه المدينة هي بلا شك الإسكندرية, ثم يقول مؤرخ بريطاني آخر هو فورستر Forster: يمكن أن تفاخر الإسكندرية قبل أية مدينة أخري, أنها صاحبة النصيب الأكبر في الجهاد لأجل المسيحية وفي انتصارها.
أيضا هذا العمل الثقافي الذي قام به قداسة البابا شنودة الثالث يذكرنا بما قام به قداسة البابا كيرلس الرابع البطريرك 110 (1853/4/17 – 1854/6/17) الذي اهتم بإحضار مطبعة والتي كانت ثاني مطبعة في البلاد بعد المطبعة الأميرية, وكانت فرحة عارمة باستقبال هذه المطبعة.
لقد كان البابا كيرلس السادس البطريرك 116 (1959 – 1971) ملهما عندما وقع اختياره علي الراهب الناسك والمثقف الواعي الأب أنطونيوس السرياني في سبتمبر من عام 1962 ليكون أسقفا للتعليم باسم الأنبا شنودة, وتدور الأيام ويقع اختيار الرب عليه ليكون بطريركا للكرازة المرقسية رقم 117 ويحمل العبء التعليمي والثقافي بأمانة كاملة.
فعند بناء كنائس جديدة ينصح البابا الكهنة أن يلحقوا بالكنيسة مدرسة ومركزا ثقافيا وهذا يعيد إلي ذاكرتنا صورة المعابد المصرية في مصر الفرعونية عندما كان يلحق بها مدرسة تقدم دراسة متميزة, وأيضا يعيد إلي ذاكرتنا صورة الكنائس القبطية في القرون الأولي عندما كان يلحق بها الكتاب, والتي تخرج فيها عظماء المصريين من أقباط ومسلمين.
واليوم إذ نستعيد ذكريات تلك الأمجاد, نشكر الله إذ جعل علي رأس كنيسة الإسكندرية قداسة البابا شنودة الثالث الذي يعمل جاهدا لتتبوأ الكنيسة مركزها اللائق الجدير بهذا الماضي المجيد..