صرخات الطفل الصغير نداء إلي أمه..لكن عندما لا تجيب الأم تزداد لوعة الطفل,حيث يجف الحنان قبل أن ينهل منه قطرات الحب وقبل أن يشبع من دفء الحضن…وكان موت الأم هو سطر الألم الأول في حياة قداسة البابا شنودة الثالث,الأمر الذي حفر في وجدانه شعورا بالوحدة واليتم ويظهر هذا في الأبيات الشعرية التي كتبها عام1939 وقال فيها:
أحقا كان لي أم فماتت…
أم أني خلقت بغير أم
رماني الله في الدنيا غريبا…
أحلق في فضاء مدلهم.ومن سطر إلي سطور حيث نبغ قداسته في تحويل الألم إلي تأمل روحي فكان يكتب بدمه لا بحبر قلمه…ومن عمق قلبه استطاع أن ينتصر دائما علي الآلام بكل أشكالها,لأن قداسته كان يري الله في الآلام…في السطور التالية نصحبكم معنا نقلب وسط كتابات البابا..لنري رؤية قداسته للألم في حياتنا…
**من أنفع الأشياء لنا في حياتنا الروحية أن نتأمل في الألم عموما وفي آلام المسيح بوجه خاص..التأمل في الألم يرفع النفس إلي فوق,يرفعها فوق مستوي المادة والعالم,ويدخلها فيما هو أرقي من الأرضيات..ولذلك فإن الإنسان في حالة الآلم تكون نفسه أقوي,وروحانياته أعمق,وكثيرا ما نري الإنسان في ألمه متجردا من حب العالم.
في حالة البهجة ربما يشعر الإنسان المسرور أن العالم معه…أما في حالة الألم فيكون العالم خلفه,وقد اختفت محبة العالم من قلبه…لذلك سهل علي المريض أن يقترب إلي الله.
المريض المتألم يقبل الحديث عن الله.ويحب أن يصلي ويطلب أن يصلي الناس من أجله…وكلمةاللهتتردد كثيرا علي فمه أكثر مما في حالة صحته…وربما لفائدة الألم روحيا سمح الله به…سمح به لأنه نافع للروح إذا سلك فيه الإنسان بحكمة.
كل ألم تحمله لأجل الرب…اشعر بلذته وبركته وإكليله…آباؤنا الشهداء كانوا يجدون لذة في الآلام,مثل القديس الأنبا فام الذي لبس أفخر ملابسه وهو ذاهب ليستشهد وقال:هذا هو يوم عرسي…ربما لأجل لذة الألم عندهم استطاعوا أن يحتملوا الألم.
ويستطرد قداسة البابا قائلا:فهل أنت هكذا؟أم أنت حساس جدا لكل ألم يحل بك؟…تتضايق وتتعب وتحزن وربما تثور!!درب نفسك علي التخلص من كل هذا,إن كانت لديك حساسية زائدة نحو كرامتك ونحو حقوقك,حاول أن تتحلص منها متذكرا ما قيل عن السيد المسيحظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاه تساق إلي الذبح وكنعجه صامتة أمام جازيها(إشعياء53:7).
إن كنت كثير العتاب وإن كانت أقل عبارة تخدشك وأقل تصرف يجرحك..ويثيرك أويبكيك فاعرف أنك لم تدخل في تدريب الألم بعد.
إنه لما دعا شاول الطرسوسي لكي يكون رسولا شرفه بهذا الألم فقالسأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي(أع9:16)..ودخل الرسول في هذا الألم الذي لم يفقده فرحه.فقالكحزاني ونحن دائما فرحون(2كو6:10)كمائتين وها نحن نحياإننا سننال أجرنا في السماء.علي قدر آلامنا لأجلهكل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه(1كو3:8)فإن كان الأمر هكذا ليتنا ندخل في اختبار الألم بحب برضي,بفرح, بثقة,في إيمان بالملكوت…وإن كان الأشرارأعمالهم تتبعهمفالأبرار آلامهم تتبعهم وأيضا أعمالهم الطيبة تتبعهم.
**كل إنسان له نوعية ألمه لأجل الرب ليس من الضروري أن يدخل في آلالم الصلب والجلد كالسيد المسيح,أو آلام الظلم والاتهامات الكاذبة التي تعرض لها المسيح,إنهاء قد يكون آلمك من أجله هو تعب الخدمة…تعب البذل هو تعب المحبة(عب6:10) المحبة التي تصعد علي الصليب لكي تبذل ذاتها وتعطي حياة للآخرين كما فعل الرب..ولكن بصورة بسيطة ..صورة المحبة التي تجول تصنع خيرا كما فعل الرب.
**ومن عمق قلبه يؤكد البابا بقلمه
إن وقت الألم هو وقت الاحتياج إلي الله وفيه تشعر بوجود الله أكثر مما تشعر في وقت الراحة أو المتعة..تشعر في الألم بيد الله كيف تتدخل وتعمل وتنقذ..يعقوب أبو الآباء بدأت خبراته الروحية في وقت الألم…لم نسمع عن خبرات روحية ولا مناظر ولا رؤي في بيت أبيه ولا صراع مع الله ولا وعود إلهية ولا تغير لاسمه….ولكن لما قال عيسوأقوم وأقتل يعقوب أخي(تك27:41) وهرب يعقوب من وجه أخيه,هنا بدأ يشعر بوجود الله في حياته وفي هروبه وضيقته رأي السلم الواصلة بين السماء والأرض,ورأي الملائكة صاعدة ونازلة عليها,وسمع صوت الله يقول لهها أنا معك,وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلي هذه الأرض(تك28:10-15) وبدأت ليعقوب سلسلة من الخبرات الروحية في الحياة مع الله.
نفس الوضع بالنسبة إلي يوسف الصديق لم يدخل في العشرة الإلهية كما ينبغي وهو ابن مدلل في بيت أبيه له قميص ملون وأحلام جميلة تثير حسد إخوته وغيرتهم,ولكن لما ألقي في البئر ولما بيع كعبد بدأ يختبر يد الله معه…كيف ينجح طرقه,وكيف يعزيه حتي وهو في السجن,وكيف يمنحه موهبة تفسير الأحلام,ويمنحه نعمة في عيني حافظ السجن والمسجونين,بل يمنحه نعمة في عيني فرعون نفسهوالله أرادبه خيرا(تك50:20) أفضل أيامه الروحية كانت وهو في الألم أما لما صار وزيرا فلم نسمع عنه حينئذ رؤي أو أحلاما بل كان رجل إدارة وسلطة ولم تكن إرادة الله مكشوفة له وقت مباركة ابنيه إفرايم ومنسي كما كانت مكشوفة لأبيه يعقوب الذي عاش في الألم.
ويونان النبي كانت أعمق روحياته وهو في بطن الحوت حينما كان طليقا وكان معاندا للأمر الإلهي متمسكا برأيه,أما حينما ابتلعه الحوت وجازت فوقه التيارات حينئذ صرخ من جوف الهاوية فسمع الرب صوته لما أعيت فيه نفسه صلي يونان إلي الرب وهو في جوف الحوت وقالحين أعيت في نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي بصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته(يونان2:1, 7, 9).
وأمثلة لأنبياء وأبرار كثيرين مثل الثلاثة فتية تمتعوا بوجود الله معهم وهم في أتون النار…ودانيال النبي شعر بعمل الله لأجله وهو في جب الأسود..وبطرس الرسول لمس يد الله معه وهو في السجن…ويوحنا لم يبصر تلك الرؤيا العظيمة إلا وهو في الألم والضيق منفيا في جزيرة بطمس وتلاميذ الرب أبصروا يده معهم لما اضطربت السفينة وهاجت الرياح فأتاهم في الهزيع الأخير من الليل وانتهر الرياح…حقا حينما لا توجد حلول بشرية نبصر يد الرب تعمل أحيانا,لما يرتفع الإنسان في مركزه يختفي عمل الله من قاموسه,ومن الجائز أن نجد في هذا القاموس كلمات الشهرة والمال والعظمة والمركز أما كلمة الله فتكون عزيزة,ولكن حينما يوجد الألم تتعلق عيناه بالرب إلهه وهكذا كان بنو إسرائيل في تاريخهم القديم في فترات المتعة كانوا ينسون الرب,بل كثيرا ما عبدوا الأصنام فلما كان الرب يدفعهم إلي أيدي أعدائهم فيذلونهم كانوا حينئذ يصرخون إلي الرب فيرسل لهم من عنده من يخلصهم,كما يشرح لنا سفر القضاة..بل ما أعمق قول المرتل في هذه الخبرةاملأ وجوههم خزيا فيطلبون وجهك ياربربما في قوتنا نعتمد علي قوتنا وفي الشدة نختبر الرب.يقول الربادعني في وقت الضيق أنقذك فتمجدني…إن اختيار عبور البحر الأحمر كان في وقت الشدة كذلك ضرب الصخرة التي فجرت ماء,وكذلك السحابة المظللة.إن أرملة صرفة صيدا لم تختبر الوجود مع الله وعشرته إلا في وقت المجاعة وحينما مات ابنها هنا ظهر الله في حياتها,وبالمثل المرأة الشونمية لما مات ابنها أيضا إننا نتمتع بوجود الله في وقت الألم ونحس بوجوده ونطلبه ونلمس وجوده,وكذلك نتمتع بوجوده الإلهي في أوقات الصلاة والتأمل والعبادة.
**إن جرحت في محبة الله فلا تتعب بل قل أمينة هي جروح المحب..قل أيضا:المر الذي يختاره الرب لي خير من الشهد الذي أختاره لنفسي أنا,يارب لا أشك أبدا في محبتك مهما أصابتني من جراح ومهما احتملت من تأديبات كله للخير وكله للبركة…عصاك وعكازك هما يعزيانني إن مستني عصاك فهي للقيادة والإرشاد ولست أحس منها ألما أنت المؤدب الشافي الذي يجرح ويعصب أنت لم تقصد آلاما لأيوب الصديق بل قصدت له البركة عن طريق الآلام وأخرجته منها أفضل مما كانوزدت علي كل ما كان له ضعفا(أي42:10) وباركت آخرته أكثر من أولاه(أي 42:12) فليكن اسم الرب مباركا كل حين,هكذا قال أيوب ليس حينما شفاه الله,إنما قال ذلك وهو في عمق التجربة والألم…ونذكر أيضا مثالا لداود النبي عندما تعرض لمؤمرات من شاول الملك التي أصقلت من شخصيته ومنحته صلابة وقوة مع عمق في الصلاة والمزاميز وأهلته للملك في وقت صقلت فيه شخصيته بالإضافة إلي باقي تجاربه أيضا مع يوآب بن صرويه وشمعي بن جيرا ومع ابنه شالوم وكيف كان ذلك لنفعه روحيا…ولله حكمة أيضا في وجود الألم فالأمراض الخطيرة هي التي تنتشر في الجسم دون الشعور بالألم ولا يكتشفها الإنسان إلا بعد أن تصل إلي درجة يصعب فيها علاجها مثل بعض السرطانات,لذلك كانت حكمة من الله أن يوجد الألم الذي يساعد علي اكتشاف المرض وعلاجه,نضم إلي هذا النوع أمراض الأطفال الذين لا يعرفون طريقة للتعبير عن مرضهم,ولكن إحساسهم بالألم في مواضع معينة يكشف المرض لعلاجه.والألم أيضا مفيد في قيادة الإنسان إلي التوبة فساعة واحدة من الألم قد ترجع الإنسان إلي الله أكثر من عشرات العظات فيها يشعر أنه قريب من الأبدية فيستعد لها…أو يشعر باحتياجه الشديد إلي الله نفسه,فيسعي إليه بل إن الألم يوجد مشاعر الحنو والتعاطف حيث يشفق الناس علي المتألمين ويساهمون في العمل علي تخفيف آلامهم وهكذا تتعمق العلاقات الاجتماعية والبعض قد يتطوعون ويتبرعون ببعض دمائهم أو بنقل أعضائهم إلي المحتاجين إليها,كما أن الأطباء والعلماء لتخفيف آلام الناس وعلاجهم يبذلون قصاري جهودهم ليصلوا إلي أنواع من العلاج,وهكذا يرتقي العلم والطب أما الآلام النفسية فلها فوائدها أيضا وما أجمل قول أمير الشعراء:
ومتعت بالألم العبقري
وأنبغ ما في الحياة الألم
**إن التبحر في تأملات البابا شنودة تؤكد علي فكره الرهباني النابع من تراث الآباء القديسين الذين أدركوا البركات الروحية الكامنة خلف الآلام,وفي مقارنة بسيطة بين فكر قداسة البابا شنودة والآباء الأولين لنجد امتداد فكره إلي جذورهم المتأصلة في وحدة الروح,فالقديس مار إسحق كان يقول:لا تكره الشدائد فباحتمالها تنال الكرامة وبها تقترب إلي الله لأن النياح الإلهي كائن داخلها ومحب الإصلاح هو الذي يحتمل البلايا بفرح.وقال أيضاتوكل علي الله وسلم نفسك له وادخل من الباب الضيق وسر في الطريق الكربة فذاك الذي كان مع يوسف ونجاه من الزانية وجعله شاهدا للعفة,والذي كان مع دانيال في الجب ونجاه من الأسود,والذي كان مع الفتية و نجاهم من أتون النار,والذي كان مع إرميا وأصعده من جب الحماة,والذي كان مع بطرس وأخرجه من السجن,والذي كان مع بولس وخلصه من مجامع اليهود…وبالجملة فإن الذي كان في كل زمان وفي كل مكان مع عبيده في شدائدهم ونجاحهم وأظهر فيهم قوته هو يكون معك ويحفظك,فخذ لك يا حبيب غيرة الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين قبالة الأعداء الخفيين واقتني غيرة الذين ثبتوا قائمين في النواميس الإلهية فطرحوا الدنيا وأجسادهم إلي ورائهم وتمسكوا بالحق فلم يهزموا في الشدائد التي انتابتهم في أنفسهم وأجسادهم إذ فازوا بالقوة الإلهية وكتبوا في سفر الحياة وأعد لهم ملكوت السموات التي نؤهل لها كلنا برأفته وتحننه تعالي.
أما القديس سمعان العمودي فيقول:لا تنحل في الشدائد لتكون مرضيا لله عالما أنه لو أراد لرفع عنك الشدة وإذا لم يرفعها عنك فإنما يريد نفعك فأشكر الله علي كل حاله كما أن الذهب لا يمكن أن يعمل منه إناء مختار للملك بدون سبك وصياغة وكذلك الشمع لا يقبل الانطباع بالصورة الملكية بدون تليين هكذا النفس لا تصلح لأن تنقش فيها صورة المسيح الملك بدون أدب كثير ظاهر وباطن ومحن شديدة.
يقول الأنبا بولا السائحمن هرب من الضيقة فقد هرب من الله والقديس دوروثيؤسمن يضجر من شدائد هذا الدهر فهو جاهل بشدائد الدهر العتيد وافتراق النفس من الجسم والصعوبات التي تنالها وكيف تنسي تصرف هذا الدهر فينبغي لنا أن نتذكر الأعمال التي ندان عليها بلا نسيان.
وقال الأنبا باخوميوس:تقبل كل التجارب بفرح عالما بالمجد الذي يتبعها فإنك إن تحققت من ذلك فلن تمل من احتمالها لدرجة أنك تطلب من الله ألا يصرفها عنك.ويا ابني إذا جعلت توكلك علي الله فإنه يصير لك ملجأ ويخلصك من جميع شدائدك,إن سلمت كل أمورك إلي الله فآمن أنه قادر أن يظهر عجائبه لقديسته.
وقد قال القديس برصنوفيوس:لماذا تصغر نفسك في الأحزان مثل إنسان جسدني؟!ألم تعلم أن الأحزان موضوعة للقديسين؟!ألم تسمع أن كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها يخلصهم الرب؟ألم تعلم أن الصديق يمتحن بالأحزان كما يمتحن الذهب بالنار؟..فإن كنا صديقين بالأحزان نختبر وإن كنا خطاة فبالأحزان نؤدب..لا تنم يا أخي لئلا يفاجئك الصوت القائلهوذا الختن قد أقبل أخرجن للقائهفكيف تقول إنك مشغول وهو قد صيرك بلا هم لن ينتظرك الزمان حتي تنوح علي خطاياك فإنك قد سمعت أنه سوف يغلق الباب فأسرع لئلا تبقي خارجا مع الجاهلات..انتقل بفكرك من هذا العالم الباطل إلي العتيد…اترك الأرضيات واطلب السماويات,دع الباليات واتخذ الباقيات,مت بالكمال لكيما تحيا بالتمام بيسوع المسيح ربنا له المجد.
وقال أحد الآباءكما تنقلع الأشجار من شدة المياه كذلك محبة العالم تنقلع من القلب من حدة التجارب الحادثة علي الجسد.
ألم أقل لكم إنه نفس النهر الروحاني الذي غاص فيه آباء البرية وتشبعوا من مياهه العذبة هو نفسه الذي ارتوي منه قداسة البابا وظهر في فكره وتأملاته الرائعة عن الآلام والضيقات والتي يري القديسون فقط من خلالها الله تماما,كما قال البابا شنودةجميل إن يتأكد من هو في ضيقة أن الرب شاعر به وأنه يري ويسمع.