ليس من الواضح بعد كيف ستتمكن الإجراءات الاستثنائية التي تقررها الولايات المتحدة من كبح تداعيات الأزمة المالية التي تعصف هناك, وفي كل مكان في العالم؟ وهل ستكون الإجراءات الاستثنائية التي قام -وسيستمر بها- ثنائي الاحتياطي الفيدرالي والخزانة الأمريكية (تأميم مصارف وشركات تأمين ومنح سيولة) والأموال التي تم ضخها -وجمعت للمرحلة القادمة- (أكثر من 1300 مليار دولار) كافية لإنقاذ النظام المالي العالمي من الانهيار؟ وكذلك ليس من الواضح أيضا تأثير كل التقلبات المتسارعة علي أسس الاقتصاد الأمريكي (وخاصة عجز ميزانيته), والاقتصاد العالمي برمته؟ وإلي أي حد سيصل الركود الأمريكي (ومن ثم العالمي)؟ وكذلك فيما يتعلق بالآثار الاجتماعية والسياسية. فكيف سيتقبل المجتمع الأمريكي فاتورة الحل؟ وأنه سيدفع في النهاية من جيبه جنون المضاربات و##الليبرالية## الاقتصادية المفرطة, في حين سيخرج المسئولون عن الانهيارات مع ملايين الدولارات من المكافآت. وكيف ستكون العلاقات المالية (والسياسية) الدولية بعد أن قامت الحكومة الأمريكية بإجراءات ##اشتراكية## لم تسمح بها لمثيلاتها في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية عند حدوث أزمتهما, وبعد فقدان الثقة الدولية في النظام المالي الأمريكي؟ منذ الآن, يمكن القول إن ##نظاما## قد انهار. ذلك الذي تم بناؤه علي تأليه السوق والمال دون رأس حيث يستثمر رأس المال في الإنتاج, أما المال دون رأس فإنه يضارب في الأسواق – هذا التمييز في المفاهيم هو للاقتصادي اللبناني شربل نحاس – وإضعاف الدولة ورقابتها ودورها الخدمي والتنظيمي. وسيكون لهذا الانهيار كل تأثيراته علي صعيد الفكر السياسي. وستمر سنوات قبل أن يتم إرساء مباديء نظم جديدة, مالية واقتصادية, مع تداعيات ذلك علي المستوي السياسي. أين البلاد العربية من كل هذا؟ في البدء, وحتي مع ضعف الشفافية المالية في البلاد العربية, يمكن دون المخاطرة التكهن بأن خسارات مالية قد تحققت. حتما, هناك أولا الخسارات التي تكبدتها بعض ##الصناديق السيادية## التي سارعت (أو طلب منها) في بداية الأزمة التدخل لضخ أموال في المصارف الأمريكية المتعثرة, وهناك أيضا ما تستثمره هي أصلا في الأسواق المالية. لا تأثيرات كبيرة لهذه الخسارات سوي الحسرة علي فوائض نفطية ضاعت, ولم تذهب نموا. كذلك ماذا عن خسائر المصارف وشركات التأمين العربية؟ إذ توظف المصارف العربية التجارية (عادية كانت أم إسلامية) والمصارف المركزية وشركات التأمين جزءا من ودائعها في ##موجودات أجنبية##, تتراوح بين 20 و40% من مجمل الموجودات. و##موجودات أجنبية## يعني استثمارات في تلك السوق المالية العالمية نفسها التي تشهد العاصفة. وتدل أزمة الإقراض بين المصارف العربية (كما لدي المصارف العالمية), وتدخل بعض المصارف المركزية العربية لـ##ضخ السيولة## في القطاع المصرفي, أن هناك أزمة ثقة بين هذه المصارف, تدل علي الشبهة في أن بعض هذه الموجودات قد نقصت قيمته, وربما بشكل يهدد ملاءة بعض المصارف. حتي هنا, ستستطيع الحكومات العربية ذات الفوائض الكبيرة إعادة رسملة المصارف التي تواجه صعوبات, خاصة في الحالات التي تتبع فيها المصارف الكبيرة الدولة أو مسئوليها. ولكن حكومات الدول العربية غير النفطية والتي تواجه أصلا مشاكل كبيرة في تأمين موازنتها قد تواجه صعوبات حقيقية. من ناحية أخري, تنشطت المصارف وأسواق الأسهم العربية بشكل متسارع في السنوات الأخيرة علي أسس تقوم لجزء كبير منها علي القطاع العقاري. وقد غذي ارتفاع أسعار العقارات المتزايد تضخم الأسواق المالية العربية نسبة لحجم النشاطات الاقتصادية الأخري. فهل ستبقي وتيرة صعود الأسعار العقارية كما هي, أم ستتأثر بأجواء الأسواق العالمية وبالخسارات المحلية عند تحقيقها؟ هكذا فقد مؤشر البورصة السعودي 40% منذ بداية العام, وكذلك البورصة المصرية, في حين ليس من الواضح بعد كيف ستتطور السوق العقارية, حيث إن معظم الأسعار هي علي الورق لمشاريع يجب أن تسكتمل تمويلها وتجد مشترين لكي تظهر للوجود. هكذا بدأت التساؤلات تنطرح رغم الخطابات أن كل شيء علي ما يرام في البلاد العربية بفضل الفوائض النفطية. ذلك أن هذه الفوائض قد كانت هي الحجة لإطلاق مشاريع خيالية معظمها عقارية لا يمكن تنفيذها إلا ضمن آلية تسارعها. وأصلا كانت الأسواق المالية العربية تجد صعوبات لتمويل بعضها. وكذلك لأن جزءا من هذه المشاريع يخرج عن حكمة الدولة: فكيف يعقل أن تعاني عاصمة دولة عربية نفطية كبري من مشاكل حقيقية في تأمين مياه الشرب والصرف الصحي وحتي الكهرباء, في حين تنطلق لإنشاء مدن جديدة في وسط الصحراء. كذلك أطلق العنان للقطاع المصرفي في النشاط الاستثماري, في حين يبقي دوره ضعيفا في خدمة الأفراد والشركات الصغري. مهما كان, ستتحمل الدول العربية النفطية الصدمة علي الأغلب. ولكن الخوف اليوم هو علي الدول العربية كثيفة السكان ومحدودة الموارد, خاصة تلك التي ضعفت فيها الدولة كثيرا كمؤسسة لتنظيم القطاع الاقتصادي والمالي وخاصة للرعاية الاجتماعية. ولا ننسي أن الفوائض النفطية لا توزع بين البلدان العربية, إلا عبر تحويلات العمالة المهاجرة وقليلا من الاستثمارات البينية. خذوا مصر مثالا. إذ هناك إشارات لا تكذب. حريق مجلس الشوري. أحد أكبر رجال الأعمال متهم بإرسال رجل أمن سابق لقتل عشيقته بشكل وحشي. جبل ينهار علي منطقة فقراء غير نظامية, ويترك مئات المفقودين في مقبرة جماعية تحت الأنقاض. ثم حريق آخر في المسرح القومي. رجال الأعمال فقدوا مصداقيتهم رغم كل الجهد (المعنوي والمادي) الإعلامي, والناس تصفق… للجيش عندما يأتي لإطفاء الحرائق أو لإنقاذ الضحايا. في حين يعمل اقتصاديوه اللامعون (خريجو مدرسة تأليه السوق في صندوق النقد والبنك الدوليين, والذين نسوا حتي لغتهم العربية) علي خصخصة… التعليم العالي. ما رأيكم بإمكانات الدولة-المؤسسة هناك في درء آثار العاصفة المالية العالمية وانهيار ##نظامها##. مهما كان. الناس, ##الغلابة## كما يقولها المصريون, هم دوما من سيدفع الثمن. وهؤلاء الغلابة في مصر, والسعودية وكل البلاد العربية أغلي… من كل مال الدنيا.
صحيفة لوموند دبلوماتيك