المشهد الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط الكبير, كما أرادت إدارة بوش أن تسميه, من أفغانستان حتي المغرب, يوحي, بما لا يدع مجالا للشك, أن قدرات الدول العظمي في فرض واقع سياسي جديد أو تقديم حلول لمشاكل إقليمية, أو في تشكيل منظومة أمن إقليمي جديدة, باتت جد محدودة. فقدرات أمريكا وبريطانيا ومعهما بقية الغرب ليست قادرة علي فرض حل في ملف إيران النووي, كما أنها غير قادرة علي ضبط الأوضاع في العراق, وهي أيضا تبدو مكتوفة الأيدي أمام إسرائيل وإجبارها علي العودة إلي طاولة المفاوضات, كما أنها, والأمر كان واضحا في مسألة اليمن, تكاد تكون رحلت الأزمة برمتها إلي المنطقة من خلال انعقاد مؤتمر إقليمي في الرياض في مارس. أما استراتيجية أوباما في أفغانستان فهي محددة إما بنصر محدود أو خروج علي الأقل غير مخجل. إذا كان هذا هو الوضع, فما الحل إذن؟
الحل بلا شك يكمن في الدور الذي يمكن للقوي الإقليمية أن تلعبه, ولنسم القوي بصراحة وبأسمائها حسب قدراتها, وأولاها تركيا, ثم إسرائيل, ثم مصر, ثم المملكة العربية السعودية, ثم إيران. أي: ثلاث دول غير عربية, ودولتان عربيتان. هذه القوي لديها اليوم القدرة علي المناورة مع أو ضد القوي العظمي أكثر من أي وقت مضي. لذا نري كلا من إسرائيل وإيران تلعبان علي حالة الضعف العالمي لتحققا أكبر قدر من المكاسب لنفسيهما, ورغم كل ادعاءاتهما فإن أجندتيهما متطابقتان, ربما ليس بقصد, ولكن النتائج النهائية تقول إنهما تستهدفان المنطقة العربية من منظوريهما, اللذين يلتقيان في النهاية رغم الخلاف المدعي.
أما تركيا فهي تستخدم ورقة العرب لتحقيق مكاسب مع أوربا وأمريكا, كل علي حدة, فهي تقدم نفسها لأوربا علي أنها دولة الإسلام المعتدل, حتي عندما يكون الحزب الحاكم إسلاميا, وعليه تكون تركيا هي الجسر الرابط بين الشرق والغرب, ومن هنا فلو كافأتها أوربا بإدخالها إلي الاتحاد الأوربي, فإن ذلك سيكون في مصلحة أوربا التي تعاني مجتمعاتها من التطرف الإسلامي, من القضايا الخشنة كالعنف, وقضايا ناعمة كالنقاب إلخ.. تركيا هي الدولة التي تستطيع ترويض المسلمين وتحويلهم من متطرفين إلي معتدلين. وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ألقي محاضرة عندنا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية, وكانت تلك رسالته. تركيا تتعامل مع الغرب والشرق وتتوسط بين إسرائيل وسورية, ولها علاقات بإسرائيل أهم من علاقات الدول العربية التي وقعت مع إسرائيل معاهدات سلام, إذن تركيا هي الأحق بالدور الإقليمي الأكبر في المنطقة, ويجب أن تكافأ عليه أيضا. تركيا ورئيس وزرائها هم اليوم من يحصدون إعجاب الشارع العربي تصفيقا وجوائز, لذا فتركيا مقبولة من الجميع. هذه رسالة تركيا وهي رسالة بكل أمانة طغت علي الرسالة المصرية والسعودية من حيث أهمية الدور الإقليمي بكل أسف, علي الأقل في المحافل الغربية.
حتي إيران اليوم تحظي, ربما ليس بقبول, ولكن باعتراف من الأطراف الدولية القادرة ومن صناع الرأي العام فيها, أقولها بكل أسف أيضا. فما من حديث عن الوضع في أفغانستان أو في العراق أو في اليمن في عالم الخبراء الذين يرسمون ملامح السياسات, إلا واشتمل علي توصية بدعوة إيران للجلوس علي الطاولة والتأكيد علي دورها في أفغانستان والعراق واليمن والمصالحة بين فتح وحماس وتهدئة الجبهة اللبنانية مع إسرائيل. إيران اليوم, ورغم ما لديها من مشاكل, و لا تحظي بتقدير الغرب, إلا أنها طرف موجود, بسبب حجم مشاكلها طبعا, أو كمحاولة لاحتوائها.
أما إسرائيل وقبول دورها الإقليمي فحدث ولا حرج, فهي ممثلة الغرب في المنطقة, تغتفر لها كل الجرائم وكل التجاوزات, وتجلس علي الطاولة, عندما ترسم خرائط المنطقة, أما نحن, فنحن تلك الخرائط التي ترسم.
في هذا المشهد الذي يبدو كئيبا بالنسبة للعرب تري ما الحل؟
بداية الحل وأول خطوة لتعظيم دور الدولتين العربيتين الأكبر, مصر والسعودية, تكمن في تجنب سياسة الإجهاض العربية – العربية في العلاقات الدولية. فما إن تقوم مصر أو السعودية بمبادرة, إلا وتقوم دولة عربية أخري بإجهاض المشروع المصري أو السعودي.
كنت في واحدة من الجلسات الاستراتيجية في أعقاب مؤتمر اليمن وأفغانستان, وتحدث باحث عن أهمية النموذج السعودي في المناصحة الذي عزل المتطرفين من المجتمع الأوسع, وقدم تصورا علي أنه برنامج مفيد, علي كل من أفغانستان واليمن أن يتبعاه, كما اقترح آخر تبني أسلوب مصر في مكافحة الإرهاب في التسعينيات من القرن الماضي, فرد عربي رسمي جالس في الجلسة كمستمع وقال السعودية ومصر هما سبب البلاء كله, فالسعودية هي مصدر التمويل والإشعاع الفكري للمتطرفين في أفغانستان وفي اليمن. مصر أهدت العالم المجاهد أيمن الظواهري, والسعودية أهدتنا بن لادن, فكيف بعالم أن يقتدي بتجاربهما. هذا منطق قد يكون مغلوطا, ولكنه منطق يكسب في الغرب وفي عالم محدود المعرفة والدراية بما يحدث في الشرق الأوسط. هذا إجهاض تحليلي خفيف, علي مستوي عالم الخبراء.
عندما كنت في واشنطن, كان يتندر المسئولون الأمريكيون علي طريقة العرب في السياسة الخارجية, فما إن يخرج وفد عربي من لقاء بالخارجية الأمريكية أو الكونجرس, حتي يدخل وراءه وفد عربي آخر يشكك فيما قال الوفد السابق, إن لم ينسف كل ما قيل. إذن ما إن تقوم مصر مثلا بدور في مسألة ما, إلا ونجد أن دولة عربية أخري تدفع أموالا للوبيات في واشنطن ولندن كي تنسفه. والأمثلة كثيرة, واللي ما يشوفش من عين الغربال أعمي, علي رأي المثل الصعيدي.
ومع ذلك, تستطيع كل من مصر والسعودية بثقليهما السكاني والمالي والثقافي أن تشكلا قوة عربية أساسية تدير سياسات المنطقة بشكل يعود بالنفع علي أهلها, في غياب دور أساسي للدول العظمي, ولكن ربما لأنه لا يوجد تصور لمستوي التنسيق المصري السعودي, الذي يتمتع بالصدقية في القمة, ولكنه محفوف بشكوك الموظفين, فحالنا علي ما هو عليه.
لقد آن الأوان أن تفكر كل من مصر والسعودية في نموذج تعاون جاد علي المستوي الاستراتيجي, نموذج يكون أساسه فكرة الطيار والطيار المشارك في عالم الطيران الغربي (pilot and co – pilot), طياران متساويان في كل شيء, ليس هناك شريك أقل من شريك. أما إذا أخذ النموذج من مدرسة الطيران العربية التي تسميهما بالطيار ومساعد الطيار, والذي يوحي بأن المساعد أقل أهمية أو قيمة, فقل علي الفكرة السلام. علي كل من مصر والسعودية اليوم مسئولية تاريخية في بناء مستوي عال من التنسيق الاستراتيجي من أجل إدارة ملفات المنطقة الخطيرة والآنية, ولا يجب أن تنشغل الدولتان لا بتحجيم الدور الإيراني أو بتقزيم الدور التركي, ولكن أن تتبنيا تصورا جديدا إيجابيا لدورهما الإقليمي المشترك, بعيدا عن التحركات السلبية.
أمام كل من مصر والسعودية اليوم فرصة تاريخية للعب الدور الأعظم في المنطقة, لو أن الدولتين اقتنعتا وبشكل استراتيجي بالتعاون بينهما, وكذلك اقتنعتا بأن دور الدول الكبري ونفوذها في المنطقة, قد تضاءل بشكل كبير, سنكون أمام وضع إقليمي جديد. إن لم تملأ كل من الدولتين الفراغ الاستراتيجي القائم في المنطقة, فهناك من سيملأه من الجوار غير العربي. إن لم تملأ كل من الدولتين الفراغ الاستراتيجي القائم, فيجب عليهما ألا تتوقعا حلا للصراع العربي – الإسرائيلي, ولا حلا للتدخلات غير العربية في المنطقة, ولا حتي مقعدا علي الطاولة. ففي نهاية المطاف, إن لم يكن لك مقعد علي الطاولة, تصبح الوجبة التي يتقاسمها الجالسون.