لم نكن نتحدث كثيرا عن المسافات الآمنة بيينا وبين الآخرين، ولكن مع الاهتمام الذى شهده المجتمع خلال السنوات الماضية بشأن التحرش الجنسى، بدأ لحد ما يتشكل وعى بضرورة وجود مسافة آمنة تحمى الجسد من إقتحام الآخرين له أو ما يسمى بالإنجليزية Body Comfort Zone ، أى تلك المنطقة التى تجعل الفرد (بمعنى جسده أو جسدها) يشعر بالارتياح والأمان فى تعامله مع الآخرين، وأنه من غير المسموح الاقتراب إلا بالدرجة التى يسمح فيها الفرد للآخرين بالاقتراب. وبالتالى فإن المسافة الآمنة هى مجال يحدده ويسيطر عليه الشخص، والاقتراب منه أو فيه يخضع لتقديرات شخصية. وهذا شعور وإحساس طبيعى لدى الشخص، حتى لو لم يكن على وعى بان من حقها او حقه أن يُحاط بمجال آمن، ومع ذلك فإن الكثير من البشر لا يحترمون المسافات عمدا أو بدون قصد. ولذا فقد بدأت مؤخرا بعض أنشطة التوعية بضرورة احترام ذلك الحيز الخاص باعتباره حق للفرد. واستهدفت أنشطة التوعية النساء والفتيات والأطفال فى بعض الأوساط لحمايتهم من ممارسات غير مرغوبة أو ضارة وتنطوى على خطورة.
وفى الحقيقة أن فكرة المسافات الآمنة التى تفصل الأجساد وتمنع التدخلات والاحتكاكات غير المرغوبة هى فكرة حديثة إرتبطت بصعود فكرة الفرد ككيان له حقوق شخصية، وكجسد له حدود تفصله عن غيره من الأجساد، فليس من حق أحد أن يتدخل فى مجاله الجسدى بدون موافقته أو موافقتها، وما عدا ذلك يعد إنتهاكا. ومع ذلك، فإن المجتمعات التى لا تحترم الفرد، كذات مستقلة ولها حقوق، تفتح الباب أمام ممارسات فيها نوع من اقتحام واختراق للخصوصيات، من ناحية، أو ممارسات تفترض العزل والفصل بين الأجساد من ناحية أخرى، وفى الحالتين يتم إهدار مبدأ الخصوصية كحق شخصى. وهنا تحديدا يمكن الإشارة إلى ثلاثة نقاط:
أولا: أن المسافات الآمنة يجرى إنتهاكها عندما لا تكون فكرة احترام الخصوصية موجودة كقيمة ثقافية معترف بها، ومتفق عليها اجتماعيا. والمسألة لا تتعلق فقط بانتهاكات مثل التحرش، ولكن فى تدخلات تبدو وكأنها عادية وطبيعة، ولكنها تجعل الآخرين لا يشعرون بالإرتياح، مثل الاقتراب من شخص ما بدون وعى بطريقة تثير عدم الارتياح أثناء الحديث معه أو معها، أو معاملة الأطفال بطرق نتصور أنهاتعبير عن التودد والحب، بدون وضع اعتبارات لمدى إرتياح الطفل لمثل هذه الممارسات. ولا شك أن هناك سياقات وخاصة فى المجتمعات الفقيرة والمزدحمة تلغى المسافات وتدمر فرص الاحساس بالخصوصية، فيعيش الناس فى عالم بلا مسافات أو خصوصية، وفاقد الشئ لا يعطيه.
ثانيا: بما أن المسافات الآمنة هى حق شخصى، فان الأمر يرتبط بإرادة الشخص فهو أو هى من يسمح بدرجات الاقتراب من مجاله/ا الخاص. وبالتالى فإن إجراءات الحماية المفروضة والمبالغ فيهاباسم حماية الأخلاق والتى تصل إلى حد “العزل”، وخاصة بين الرجال والنساء، أى تلك الثقافة التى تصنع الجدران حول النساء بوصفهن جسدا جماعيا “حريم” يخضع لشروط وإكراهات الجماعة صاحبة الحق الأصيل فى تقرير مصيره، فهذه الثقافة تنتهك الحق فى الخصوصية باسم الشرف والأخلاق. وبالتالى فإن اقتحام المسافات الآمنة، أو فرضها بالقوة هما وجهان لعملة واحدة، بمعنى سلب إرادة الفرد وحقه أو حقها فى تحديد المجال الخاص به.
ثالثا: إن الثقافة التى لا تحترم الحق فى الخصوصية، وتلك التى تبالغ فى الفصل بين الأجساد لدرجة العزل، يخلقان حالة من الفوبيا أو الخوف من التواصل او الاقتراب. كأن يبالغ الشخص فى عزل ذاته عن الآخرين، عندما يتم النظر او التحفز إزاء أى اقتراب باعتباه نوعا من الخطر: سواء تم النظر إليه كانتهاك، أو تم النظر إليه كفعل يقع فى دائرة الحرام. وبسبب هذه الفوبيا قد نجد مبالغات فى الحماية او العزل الطوعى للأجساد. ولكن يجب أن ندرك بقدر أهمية الحق فى إمتلاك مسافات آمنة (كحق شخصى)، ثمة أهمية كذلك للتواصل والتفاعل الاجتماعى، وثمة الكثير من التعبيرات الجسدية التى تحقق مثل هذا التواصل والتفاعل بطريقة آمنة ومتفق عليها اجتماعيا وثقافيا.
ويبقى القول أنه بقدر ما نحتاج إلى مسافات آمنة بقدر ما نحتاج إلى التواصل والتفاعل. وسواء هذا وأو ذاك فإن المسألة تتعلق بالوعى بالحقوق واحترام للذات وللآخر.