في مقال قصير وشهير بعنوانجواب عن سؤال:ما التنوير؟نشر في مجلة شهيرة في برلين عام 1784 يعرف الفيلسوف الألماني عمانويل كانط التنوير بأنه:خروج الإنسان من حالة اللانضج الاختياري.واللانضج هو عجز الإنسان عن إعمال فهمه من غير معونة الآخرين.وهذا اللانضج هو من صنع الإنسان عندما لا تكون علته مردودة إلي نقص في الفهم,وإنما إلي نقص في العزيمة والجسارة في إعمال الفهم من غير معونة من الآخرين.##كن جريئا في إعمال عقلك##هذا هو شعار التنوير.
يتبين من هذا التعريف أن الاعتماد التام علي الفهم وحده,أي علي العقل,دون الاعتماد علي سلطة خارجة علي العقل هو جوهر التنوير.ولذلك أطلق علي عصر التنوير في إنجلتراعصر العقل.وهذه السلطةالخارجية,في رأي كانط,تتمثل فيمن يسميهم بـالأوصياءالذين يفرضون سطوتهم عنوة علي المجتمع وعلي الجماهير,وينتشرون في مختلف مجالات الحياة.بل إن كانط يطلق لفظ الأوصياء علي أصحاب الكلمة المطبوعة.بيد أن كانط يحمل الفرد مسئولية سطوة هؤلاء الأوصياء علي العقول لأن الفرد والجماعة يتنازلون طواعية عن حقهم في التنوير,أي في الخروج من حالة اللانضج,ويؤثرون الكسل والجبن والضعة,وهو بذلك,أي بضعفهم,يخلقون الأوصياء ويمنحونهم القوة وسلطة التحكم في مصائرهم.ويترتب علي ذلك أن يسلب الأوصياء من الأفراد والجماهير الشرط الجوهري اللازم لتحقيق التنوير وهو الحرية التي يعرفها كانط بأنهاحرية الإعمال العام للفهم في شتي المسائلوإلحاح كانط علي هذا النوع من الحرية مردود إلي ضرورة ممارسة إعمال العقل في حضور الجماهير وليس في غيبتهم حيث إن الجماهير هي المنوطة بتغيير المجتمع من مجتمعالتنويرإلي مجتمعمستنيروهو ما كان كانط ينشده ولكنه لم يتحقق في عصره.
نخلص من كل ذلك إلي أن التنوير يقوم علي ستة شروط لازمة:
أولا:الوضوح حيث إن الغاية من إعمال الفهم,أي إعمال العقل,كما يتبين من اللفظ الألماني للتنوير Aufkla rung هو إجلاء الغموض من أجل تحقيق الوضوح في جميع مجالات إعمال الفهم.ومن هذه الزاوية فإن المعني الدقيق للفظ التنوير هو التوضيح.
ثانيا:الجرأة في إعمال الفهم,وإعمال العقل.
ثالثا:الاعتماد التام علي الذات في إعمال الفهم.
رابعا:الحرية الخالصة,بلا قيود,في إعمال الفهم.
خامسا:الإعمال العام للفهم,أي ممارسة إعمال العقل من خلال وسائط جماهيرية,سواء كان بالكلمة المطبوعة أو المسموعة أو المرئية.
سادسا:الانتقال من مجتمعالتنويرإلي المجتمعالمستنيرباعتباره الغاية الآجلة للتنوير.هذه الشروط الستة,إذا تحققت لن تقوم للأوصياء قائمة.ويمكن إيجاز هذه الشروط الستة في شرطين جوهريين,الأول هو التأويل حيث إن الشروط الخمسة الأولي,أي الوضوح والجرأة والاعتماد علي الذات والإعمال العام للفهم والحرية كلها تفصيلات لماهية التأويل ووظيفته كما تنطوي أيضا علي الشروط اللازمة لممارسة التأويل.أما الشرط الثاني فهو الرؤية المستقبلية باعتبارها المبدأ المحرك للتنوير كفعل حضاري يدفع في اتجاه التطور والتقدم,وهو ما ينطوي عليه الشرط السادس أي الانتقال من مجتمع التنوير إلي المجتمع المستنير.
بيد أن الشروط الضرورية للتنوير لا يمكن الحديث عنها إلا من حيث إنها نتيجة للإصلاح الديني الذي حقق مشروعية الفحص الحر للنص الديني,أي حرية إعمال الفهم في النص الديني.وتأسيسا علي هذا الفحص الحر نشأت مدارس التأويل الفلسفي بعد أن تفرعت عن علم اللاهوت واستقلت عنه.
والإصلاح الديني في جوهره,يقوم علي مبدأين:الأول هو إجلاء الغموض الكامن في النص الديني,وذلك بتأويله تأويلا مجازيا,أيإخراج دلالة اللفظ من المعني الحقيقي إلي المعني المجازيعلي حد تعريف ابن رشد للتأويل.أما المبدأ الثاني فهو الإعمال العام لحرية العقل في تأويل النص الديني وذلك بإتاحة المجال للجماهير لفهم النص الديني وذلك بنقله إلي لغة العامة كما فعل مارتن لوثر.
وقد كانت النتيجة الحتمية للإصلاح الديني هي العلمانية بشقيها المعرفي والسياسي,في شقها المعرفي,كما يحدده مراد وهبة في كتابهمدخل إلي التنويريتمثل فيالتفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق,أو بالأدق,العلمانيةمحصورة في عدم تحويل النسبي إلي المطلق,أي عدم مطلقة ما هو نسبي.ويستطرد مراد وهبة فيقول:ومن هذه الزاوية يمكن القول بإن الدور الفعال والنقدي للعقل هو أساس العلمانية أو الشرط الأول للحداثة.وغياب سلطان العقل يفضي إلي غياب التزام العقل بتغيير الواقع,ومن ثم فإنه يفضي إلي تجميد الوضع القائم.وهذا بدوره يفضي إلي سلطان الأسطورة والمحرمات الثقافية وهما من سمات الوضع القائم في الدول المتخلفة.
أما الشق السياسي للعلمانية فهو المعروف والشائع ويتمثل في فصل السلطة الزمانية عن السلطةالروحية,أي فصل المجال العام للحياة عن المجال الخاص وعدم الخلط بينهما وهو مايضمن عدم مطلقة النسبي.وهذا هو ما تحققه القوانين والتشريعات في مختلف مجالات الحياة.الإصلاح الديني والعلمانية إذن هما شرطا التنوير.
نخلص من كل ذلك إلي أن مفتاح التنوير يكمن في عقل المثقفين من جهة,والجماهير من جهة أخري بشرط أن يعي كل من المثقفين والجماهير مسئوليتهم تجاه تحقيق الشروط الستة والتي تلزمهم بمواجهة الأوصياء والتخلص من وصايتهم.وهنا تثار عدة أسئلة:
-إذا كانت شروط التنوير تتسم بالعالمية وتتجاوز ماهو محلي وخاص,لماذا تحققت في أوربا ولم تتحقق في المجتمعات العربية؟
-هل تختلف طبيعة الوصاية ومن ثم طبيعة الأوصياء في المجتمعات الأوربية عنها في المجتمعات العربية,أم أن الاختلاف يكمن في نوعية المثقفين والجماهير؟
-ما هي الإمكانات التي طرحت تاريخيا من أجل تأسيس حركة التنوير في المجتمعات العربية,وكيف تم إجهاضها؟
-ما هي طبيعة الأزمة المترتبة اليوم علي هذا الإجهاض؟
في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة,أطرح بعض النماذج التي تمثل الإمكانات التي طرحت تاريخيا من أجل تأسيس حركة تنوير عربية وما آلت إليه هذه المحاولات من إجهاض وإفشال.
وأبدأ بفرح أنطون المفكر اللبناني المسيحي الذي سافر إلي مصر في مطلع القرن العشرين وأنشأ مجلةالجامعة,في كتابهابن رشد وفلسفتهالمنشور عام 1904,يدافع أنطون بحرارة عن العلمانية,أي فصل الدين عن الدولة,بدعوي أنها العلامة العظمي علي الحضارة,وذلك استنادا إلي فلسفة ابن رشد.ويهدي أنطون كتابه إلي##عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما##.ويقصد بذلك الأجيال الجديدة في الشرق في الإسلام والمسيحية والأديان الأخري##وهو يقصدأولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر فساروا يطلبون وضع أديانهم جانبا في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادا حقيقيا ومجاراة التمدن الأوربي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعا وجعلهم مسخرين لغيرهم.(ص 23).
وإثر نشر الكتاب ثار جدل بين أنطون والشيخ محمد عبده علي صفحات مجلةالمنارالتي كان يحررها رشيد رضا ويكتب فيها الشيخ محمد عبده,ومجلة أنطونالجامعةوقد أدي هذا الجدل إلي المخاصمة والفراق ونهاية عهد الصداقة بين أنطون ومحمد عبده.وهذه الواقعة رمز علي التعصب الديني.
وفي هذا الجدل يقرر فرح أنطون أن العلمانية,بمعني فصل السلطة الزمانية عن السلطة الروحانية,هي أساس التسامح.وقد كان يحلم بتأسيس دولة علمانية يشارك فيها المسلمون والمسيحيون علي قدم المساواة.وتستند هذه الفكرة إلي أن الأديان.في حقيقتها,متشابهة,لأنها تقوم علي جملة مبادئ تدور علي أن الطبيعة البشرية والحقوق والواجبات الإنسانية,في حقيقتها متماثلة.ويري أنطون أن التسامح,بالمعني السابق,هو الوسيلة الوحيدة إلي تحقيق هذا التسامح في جميع الأديان,ثم هو أساس المدنية الحديثة,ويقرر أنطون كذلك أن التسامح ضروري لخمسة أسباب,أولها وأهمها: هو تحرير العقل الإنساني من أية سلطة عقيدة وذلك لصالح الحضارة الإنسانية.ثانيها,المساواة التامة بين أبناء الأمة الواحدة,بغض النظر عن معتقداتهم وأيديولوجياتهم.ثالثها أن السلطات الدينية ليس لها حق التدخل في أغراض الحكومة لأن هذه السلطة تشرع برؤية أخروية وليس برؤية دنيوية.والرؤية الدنيوية هي الغرض من تشريعات الحكومة.رابعها,أن الدولة المحكومة بالدين ضعيفة.فالسلطات الدينية ضعيفة بحكم طبيعتها لأنها تحت رحمة مشاعر الجماهير.ثم هي سبب ضعف المجتمع لأنها تركز علي مايفرق بين البشر.بل إن مزج الدين بالسياسة يضعف الدين ذاته لأن السياسة تهبط بالدين إلي الحلبة وتعرضه لمخاطر الحياة السياسية ومؤامراتها.وأخيرا الوحدة الدينية مستحيلة لأنه علي الرغم من أن الدين الحق واحد فالمصالح الدينية المتباينة معادية دائما لبعضها البعض,وهذا هو السبب في أن الحكومة الدينية تتجه إلي الحرب.
ومن أجل ذلك فإن أنطون يدافع عن الوحدة الوطنية وليس عن الهوية الدينية في دولة السلطة العلمانية فيها مستقلة.ثم هو يري أن كل هذا لا يتحقق إلا بالعلم والفلسفة.لأنهما الوسيلة الوحيدة الكفيلة بالقضاء علي التعصب الديني.
وبعد فرح أنطون يأتي الشيخ علي عبد الرازق وهو أزهري أصدر كتابا مشهورا عنوانهالإسلام وأصول الحكم(125).في هذا الكتاب يشير الشيخ إلي هوبز ولوك حيث إنه سيستخدم فلسفتهما كأساس لرفض الخلافة أو نظام الحكم الإسلامي الثيوقراطي,يقول ثمة حقيقة يؤكدها العقل ويدلل عليها التاريخ هي أن قوانين الله لا علاقة لها بنظام الحكم الذي تقول عنه الشريعة إنه الخلافة.كما أنه لا علاقة لها بأولئك الذين يحملون لقب الحقيقة,ثم إن خير المسلمين في هذا العالم لا يستند إلي أي منهما.ويري علي عبد الرازق أننا لسنا في حاجة إلي مثل هذه الخلافة لا لديننا ولا لشئوننا الدينية,بل أكثر من ذلك فإن الخلافة كانت ومازالت كارثة للإسلام والمسلمين ومصدرا للشرور والفساد,ثم إن الشيخ ينكر العلاقة بين الدين والدولة,فيقوللقد روج السلاطين خطأ بين الناس وهو أن الخلافة مسألة دينية وبذلك اتخذوا من الدين ستارا لحماية عروشهم وللدفاع عن أنفسهم في مواجهة المنشقين,وعندما أشاعوا هذا الرأي بطرق شتي فقد استطاعوا إقناع الجماهير أن طاعة الأئمة مساوية لطاعة الله وأن التمرد عليهم يماثل تمردهم علي الله,بل إنهم ذهبوا بعيدا إلي حد الإعلان أن السلطان هو خليفة الله علي الأرض وظله الممتد علي رعاياه.
ولكن هذه الدعوة الشجاعة والواضحة لعلمنة الحكم الإسلامي من قبل شيخ مسلم سرعان ما أجهضت من قبل المؤسسة الدينية الإسلامية وهي الأزهر الذي أصدر حكما من مجلس العلماء بإدانة الشيخ علي عبدالرازق وطرده من دوائر العلماء وهو مايشبه مبدأ الحرمان في النظام الكنسي الكاثوليكي,وبسبب هذا الحكم رفع اسم علي عبدالرازق من قوائم الأزهر ومن جميع المؤسسات,بل إنه فصل من عمله ومنع من أي رتب,ولم يعد مؤهلا للقيام بأية وظيفة سواء كانت دينية أو غير دينية.
وبعد الشيخ علي عبدالرزاق يأتي طه حسين ويصدر كتابه##في الشعر الجاهلي##(1926)وفيه يقترح تطبيق منهج ديكارت لفهم الثقافة العربية الإسلامية والدين يقول في المقدمة وعنوانهامنهج الدراسة:أريد أن أصنع هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه(ديكارت)للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث.والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل,وأن يستقبل موضوع بحثه وهو خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج,الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر,قدكان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا,وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا,وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم,وأنه هو الطابع الذي يمتاز به العصر الحديث.فلنصتنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء.ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيه من قبل وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجيسمة الحرة,وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضا.
نعم ! يجب عندما نستقبل البحث في الأدب العربي وتاريخه أن ننسي قوميتنا وكل مشخصاتها,وأن ننسي ديننا وكل ما يتصل به,وأن ننسي ما يضاد هذه القومية ويضاد هذا الدين,يجب أن نتقيد بشئ ولا نذعن لشئ إلا لمناهج البحث العلمي الصحيح.ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف,وسنغفل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين.(ص11-12).
وبعد الصدام الشهير مع الأزهر واتهامه بالهرطقة اضطر طه حسين إلي إسقاط أفكاره الرئيسية أو تغييرها لكي يخفض من حدة الانتقادات الموجهة إلي كتابه المذكور آنفا.ولم تكن النتيجة النهائية,بعد ذلك سوي تراجعه عن أفكاره.
وفي رأيي أنه علي الرغم من دفاع طه حسين عن دور المنهج العلمي العقلاني في تأويل الثقافة العربية فإن مفهومه عن الثقافة العربية الحديثة لم يكن صائبا تماما.فهو في الطبعة الأولي من كتابه في الشعر الجاهلييتنبأ بأن مصير العقل العربي هو أن يكون ديكارتيا.يقول: وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم,وآخرون ينصرون الجديد,فليس ذلك إلا لأن في مصر قوما قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية,وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل.وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد انتشاره من يوم إلي يوم…سيفضي غدا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيا,وبأن ندرس آداب الغرب وتاريخهم متأثرين بمنهج ديكارت كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان…فالمستقبل لمنهج ديكارت لا لمناهج القدماء(21)
بيد أن التاريخ قد أثبت عكس ذلك.فكتاب طه حسين,حتي اليوم,مازال من المحرمات في نظر الغالبية العظمي من المثقفين العرب.والطبعة الثانية للكتاب دليل كاف وواضح علي فشل الرؤية المستقبلية لطه حسين,فقد حذف منها ما هو غير مرغوب فيه من السلطة الدينية.هذا بالإضافة إلي ذيوع انتشار ظاهرة الأصولية الإسلامية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية في العالم العربي.ويأتي بعد طه حسين توفيق الحكيم وكتابهعودة الوعيالذي أثار مناقشات عديدة في أوساط المثقفين وعلي صفحات الجرائد والمجلات وهو مناسبة للحوار التاريخي الذي تم بين الحكيم واليسار المصري في عام 1975 علي صفحات مجلةالطليعة.يعكس هذا الحوارتطورا جديدا في فكر الحكيم.ويظهر هذا في إجابة الحكيم علي السؤال الآتي:هل تعتبر نفسك مسئولا تاريخيا؟
يجيب الحكيم:طبعا أنا مسئول.أنا أدين نفسي.لأن ما كان يصح لمفكر حر أن يكتب ويقول مما يشجع علي ظهور زعيم معبود.لماذا؟لأن الكاتب الحر كان يجب أن ينتبه لعبادة الشخص ونتائجها.
إن أهم النتائج الإيجابية للحوار هو أنه ساعد الحكيم علي التوصل إلي إيجاد الحل للمشكلة وتجاوز مرحلة النقد الذاتي وبلورة رؤية مستقبلية للتغير.وهذا يتضح في تحمس الحكيم لفكرة التنوير التي طرحها مراد وهبة من خلال الحوار.إن فكرة التنوير وجدت صدي لدي الحكيم لأنها تتفق مع آرائه كما عبر عنها في مقالاته في الثلاثينيات.ولكن الحوار كشف له عن بعد آخر من أبعاد التنوير لم يكن يعيه في ذلك الوقت.وهو البعد الاجتماعي لحركة التنوير.يقول الحكيم في حواره مع اليسار معلقا علي فكرة التنوير: إننا نحتاج اليوم إلي ثورة علمانية وإلي إعادة سيطرة العقل,وإعادة الطريقة العلمية لا الطريقة الخرافية.وإذن لابد من هذه المعركة العلمانية في التفكير.
وبالرغم من أن الحكيم يدرك أن حركة التنوير العالمية مرت بمرحلتين مختلفتين اختلافا كيفيا,المرحلة الأولي في القرن 18 كانت ملتزمة فقط بتحرير العقل والثانية في مطلع القرن 20 وكانت ملتزمة بالثورة الاجتماعية فإن الحكيم يتبني التنوير في إطار القرن الثامن عشر ويؤكد علي أن الثورة الفكرية أهم من الثورة الاجتماعية,وهو بذلك يعفي نفسه من مسئوليات الثورة الاجتماعية ناسيا أو متناسيا أن اعتناق فكرة التنوير والدعوة إلي ثورة العقل يؤدي بطريق غير مباشر إلي الالتزام بالتغيير الاجتماعي.
وهذا يؤكد أن الحكيم لم يكن قادرا علي حل التناقض الأساسي الذي يتسم به موقفه وهو اعتناق الليبرالية في عصر الالتزام ومحاولة التعامل مع واقع القرن العشرين المحكوم بالتزام العقل بتغيير الواقع بعقلية القرن الثامن عشر اللاملتزمة تجاه التغير الاجتماعي.
وتتوالي بعد ذلك سلسلة من التكفير إلي محاولة قتل وإلي الاغتيال.ففي عام 1992 قتل فرج فودة لأنه كان يدعو إلي العلمانية في الأسواق علي نحو ماكان يفعل سقراط ثم أسس حزبا أسماه حزب المستقبل في مواجهة حزب الماضي الذي يرفض التنوير الذي يعلي من شأن العقل فصدر الحكم بقتله بتأييد من بعض الفقهاء وفي مقدمتهم الشيخ الغزالي,وبعد ذلك بعامين أي في عام 1994 كانت هناك محاولة لقتل نجيب محفوظ بسبب روايةأولاد حارتنابدعوي أنها تدعو إلي الإلحاد.والمفارقة هنا أنه عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل جاء في حيثيات الحكم أن روايةأولاد حارتناظاهرة استثنائية.
وبعد ذلك يأتي نصر حامد أبو زيد الذي صدر ضده حكم في عام 1995 بالتفريق بينه وبين زوجته لأنه مرتد والمرتد كافر والكافر يعدم ويستباح دمه بسبب تأويلاته للنصوص الدينية.
وتأسيسا علي ذلك كله يمكن القول بأن التنوير مازال مجهضا في مجتمعنا المصري.وسواء كان هذاالإجهاض مردود إلي سلطان المؤسسة الدينية أو إلي تراجع المثقفين, فالنتيجة واحدة وهي غياب التنوير في المجتمع المصري.
والسؤال الملح هو:هل في الإمكان تجاوز هذا الوضع القائم؟الإجابة بالإيجاب بشرط تأسيس حركة تأويل تلزم المفكر المصري والعربي بإعمال العقل في النص الديني دون خشية اتهامهم بالكفر والإلحاد ودون خشية قتلهم.وتكون هذه الحركة مقدمة لحركة تنوير عربية.