في شهر فبراير من العام الماضي، 2012م، قضيت وزوجتي بضعة أيام في مدينة الأقصر، طيبة الجميلة، حين كنا نحتفل بعيد زواجنا الرابع.
هناك لفت نظرنا ذلك القصر الذي يطل على كورنيش النيل مباشرة ويلاصق معبد الأقصر، سألنا البعض عن القصر، من يملكه ومن يسكنه؟! قالوا لنا أنه ملك توفيق بك وأخيه يسى باشا أندراوس، وتسكنه حالياً ابنتا توفيق بك، وهما يقيمان بمفردهما في ذلك القصر حيث يأتي من يخدمهما.
اقتربت من القصر وكان على الباب لافتة صغيرة مكتوب عليها “منزل المرحوم توفيق بك أندراوس نائب الأقصر سابقاً”. تذكرت على الفور هذا الاسم، إنه توفيق بك أندراوس، حيث كتبت عنه في كتابي (حكاية الوحدة الوطنية) والذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في إطار سلسلة (حكاية مصر) والتي أسسها د. عماد أبو غازي وأشرف عليها بعد ذلك أستاذي د. محمد عفيفي. ذكرت في الكتاب أن توفيق بك أندراوس ومعه فخري عبد النور وويصا واصف قد قابلوا سعد زغلول سنة 1918م، وطلبوا منه أن يضم الوفد المصري مواطنين من الأقباط، وقد تحمس توفيق أندراوس وقال: “إن الوطنية ليست حكراً على المسلمين وحدهم”! وسر سعد باشا وقبله على هذه الكلمة. وعاد الأستاذ توفيق فأكد أن العنصرين اللذين تتألف منهما الأمة- المسلمين والأقباط- يعملان بتفكير واحد ورأي واحد، فيما يحقق مصلحتهما في الحصول على الاستقلال. وحضر اللقاء على شعرواي باشا ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك ومحمد على بك ومحمود أبو النصر بك من أعضاء الوفد.
في غروب أحد أيام إقامتنا بالأقصر، وكنا نقيم في فندق قريب من القصر، وجدت سيدتين طاعنتين في السن يجلسان أمام باب القصر، كانا (يتشمسان) كما نقول بالعامية، عرفت أنهما ابنتي توفيق بك، اقتربت وزوجتي منهما، رحبا بنا بكل لطف، وتبادلنا حديثاً ودياً عن أبيهما، حيث ذكرا لي أنه كان من أعيان الأقصر كما كان نائبها في مجلس النواب وكان له دور كبير في تمهيد شارع الكورنيش وترميم بعض الكنائس وبناء عدد من الجوامع. وعندما زرنا كنيسة السيدة العذراء بالأقصر، الواقعة إلى جانب طريق الكباش، وجدت على حجاب الهيكل البحري اسم توفيق بك والذي يبدو أنه اهتم بتعمير الكنيسة. قالا لي أنه تم إقامة حفل تأبين لوالدهما، الذي توفي سنة 1935م، وأنه صدر كتاب ضم كلمات التأبين، وأن الكتاب موجود في دار الكتب المصرية ووعداني بتوفير نسخة منه في الزيارة المقبلة، ولكن لم
تسمح لي الظروف بالبحث عن الكتاب في دار الكتب كما لم أتمكن من زيارتهما في رحلتي التالية للأقصر، ولكني وجدت الكتاب صدفة عند أحد باعة الكتب القديمة بالقرب من جامعة الأزهر بالقاهرة الفاطمية.
حيث ضم الكتاب، وعنوانه (ذكرى توفيق)، الكثير من كلمات المدح والثناء للراحل توفيق بك أندراوس، وتصدرت الكتاب صورتي سعد زغلول ومصطفى النحاس.
ولأن الشروق لابد وأن يعقبه غروب، ففي صباح يوم الثلاثاء، الموافق 8 يناير 2013م استيقظت على خبر مقتل ابنتي توفيق بك أندراوس، صوفي ولودي، في قصرهما بكورنيش النيل بمدينة الأقصر، والذي يقع بالقرب من مبنى المحافظة، ما نفترض معه أنه أكثر الأماكن
أماناً!!
رحمة الله عليهما، ورحمته أيضاً على المجتمع المصري الذي صار يفتقد للكثير من معاني الرحمة والعطف والشفقة، ليتجرد بعض أبنائه من المحبة الحقيقية الصادقة، فلم أكن أتخيل يوماً أن تنتهي حياتهما على هذا النحو البشع الذي يفتقد لكل معاني الإنسانية.
إ س