ليس العاطل من لا يؤدي عملا فقط.. لكن العاطل أيضا من يؤدي عملا في وسعه أن يقوم بما هو أجل منه, هذه الكلمات تفوه بها الفيلسوف سقراط ليدفعنا إلي القيام بأفضل الأعمال, لأن الحياة محدودة ويجب أن نكرسها للأحسن والأفضل وأن يكون شعارنا: عندما أري الأحسن, فالعمل الحسن لا يعود يرضيني.
نبدأ شهر مايو من كل عام بمناسبة عزيزة علي قلوبنا جميعا وهي: عيد العمال, لذا يجب أن تكون حياتنا غنية بالأعمال وبعيدة عن الكسل, وكما يقول شكسبير: التعب ينام علي وسادة من الحجر فيستريح, أما الكسلان الذي يطلب الراحة فلا يجدها علي وسادة من الريش.
نعم, إن الله يعتني بطيور السماء فيهب كل طائر رزقه, ولكن لا يلقي له الرزق في عشه, بل يدفعه بالغريزة إلي التفتيش والتنقيب عنه, وكما يقول سفر الأمثال: الباب يدور علي مفاصله, والكسلان علي فراشه (26:14).
إن النفس البشرية شريفة إذ هي أعانت محتاجا بسبب فقره وعجزه, لكنها دنيئة إن تركت السعي والكد لتعيش علي حساب الغير أيا كان. ما أجمل العمل عندما يقوم به الإنسان بكل حب وإخلاص, ليس للربح فقط ولكن لإسعاد الآخرين, وفي هذا الصدد نتعلم من إحدي الراهبات التي كانت تدعي Sr. Maria Bertilla وكانت تهتم بالمرضي بكل حب وكانت تدلي بتصريحات غريبة: أنا لا أعرف معني ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب لأعظ بها, ولكن يكفيني أن أغسل الأطباق وأقدم لله عملي. أنا لست خبيرة في الحياة الروحية, ولكنها كعربات الكارو التي يستخدمها ويتعب بواسطتها الفلاحون ليحملوا الغذاء للناس.
ما أجمل هذه الروح الطفولية التي تتسم بالبساطة والسذاجة وتفتح أبواب السماء وهذا يظهر من عملها الدؤوب في خدمة الفقراء والمحتاجين والمرضي, لذلك لا نستطيع أن نفصل عالمنا الروحي عن القيام بواجباتنا اليومية, حتي يصل بخور صلاتنا إلي الخارج في المنازل والطرق والميادين, لأن من يقوم بعمله علي أكمل وجه, يتقرب إلي الله, لأنه يقدم كل هذه الخدمات للمجتمع الذي يعيش فيه. وكما يقول أندريه موروا: البطالة والفراغ رأس مال الشيطان, لأن الإنسان الاتكالي هو لص يعيش من تعب الغير وكما يسميه القديس فرنسيس الأسيزي: ذبابة تعتاش من قاذورات الغير لذلك يجب أن نعمل دائما غير ملتفتين إلي المنفعة الشخصية القريبة, وإنما نعمل لأن العمل شريعة كل مخلوق حتي لو لم يكن في حاجة, ونعمل أيضا من أجل منفعة الآخرين, فكما أننا نستفيد من عمل الغير, كذلك علينا أن نفيد الغير من عملنا الدؤوب.
نحن نعيش كل يوم من تعب وشقاء الآخرين بكل فئاتهم وخاصة هؤلاء الذين لا يتذكرهم أحد, ونتأمل في الكلمات الحكيمة الموجودة في كتاب يشوع بن سيراخ: كذلك الحداد الجالس عند السندان والممعن في الحديد الذي يصوغه: وهج النار يذيب لحمه وهو يتخبط في حر الأتون وصوت المطرقة يصم أذنيه وعيناه إلي مثال ما يصنع. يصرف قلبه إلي إتمام أعماله وسهره في تزيينها إلي التمام.. بدونهم لا تعمر مدينة ولا يسكن الناس ولا يسافرون (يشوع بن سيراخ28:28, 32).
نحن لا نفكر في أمثال هؤلاء الأشخاص الضروريين في حياتنا اليومية لأننا نفكر في راحتنا فقط وفي أنفسنا ونستمر في مسيرة يومنا المعتادة, دون أن نفكر في فضل هؤلاء الذين وفروا لنا الراحة والبهجة وكل الأدوات التي نستخدمها كل يوم, لم نهتم أبدا بالتفكير فيمن صنع اللمبة التي نضيئها بكل سهولة, أو صنبور المياه الذي نفتحه ونجد أمامنا المياه في لحظة, أو وسائل المواصلات التي نستخدمها في حياتنا اليومية, الطعام الذي نجده علي مائدتنا بكل أنواعه وأشكاله. لذلك علينا أن نشكر كل هؤلاء العمال البسطاء الأوفياء المجهولين, يكفي أن يحدث عطل كهربائي مفاجئ في خطوط المترو, كم نتخيل الشلل الذي سيصيب هذا الاختراع العملاق.
كما أن الصحافة لا تتطرق كثيرا إلي الحديث عن الحياة الخفية لهؤلاء الأشخاص الذين يستيقظون مع أول خيط من ضوء الشمس ويذهبون إلي حقولهم ليقوموا بواجبهم وعملهم المعتاد والشاق والمستمر.. كل هذا يحدث مع ملايين من البشر في العالم كله والذين يستيقظون مبكرا مع الفجر وفي الشتاء القارص, كل هؤلاء لم يكتب عنهم التاريخ مقارنة بأشخاص آخرين كتب عنهم كثيرا وباستفاضة بفضل عمل واحد فقط قاموا بإنجازه, أو بسبب مركزهم الاجتماعي المرموق, أو لما يملكون من ثروات طائلة. لا ننكر أن تاريخ البشرية شيد وترعرع بفضل العمل الصامت والخفي, وبتكاتف أشخاص صغيرة وضعيفة وبفضل التزامهم الأمين, لذا كل منا هو عامل في مكانه وموقعه من أجل خدمة الآخرين وكسب قوته اليومي بعرق جبينه, ونختم بما قاله سقراط عندما شاهد تماثيل تفنن في إبداعها بعض المثالين: عجبا لهؤلاء الفنانين كيف يحيلون الأحجار إلي أشباه الناس, وأعجب من ذلك أن تري أناسا يحيلون أنفسهم إلي أشباه الأحجار. كل عام وكل عامل وحرفي وموظف ومسئول بخير وسلام.