على عكس ما نتوقع فلا نجد في الكثير من الأحيان صفة مشتركة بين المنتمين إلى طائفة ما. فإذا كان لمجموعة من الكائنات تحت نوع أو جنس فلسفي ما صفة مشتركة ومخصصة لهم فقط، لا نجد أي صفة مخصصة لمجموعة أشخاص منتمون إلى هويةٍ ما،
مثلاً: الإنسان نوع محدد من جنس الحيوانات، يعني كل البشر مشتركون في صفة محددة تميزهم عن سائر الحيوانات، ويحدد أرسطوطاليس الإنسان بأنه حيوان ذو عقل. أما البشر المنتمون لطائفة ما لا يشترط وجود صفة محددة تميزهم عن الباقيين، فعلى سبيل المثال: النسب العائلي، فلا يوجد شيء مشترك بين أبناء العائلة الواحدة، فلا كل أفرادها من عرق واحد، فقد يتبنى الشخص طفلا يتيما وينسبه له فيصبح ابنه بشكل رسمي، وعندما يتزوج شخص من امرأة فهي تنسب إلى عائلته وإذا طلقها فهي تكون تخرج عن نسب العائلة.
فالهوية لا تحدد شيء في حقيقة الناس أو طبيعتهم، فلماذا يدعي الناس بانتماءات معينة؟! من أجل “العِزوْة”، ومن أجل الولاء.
ولنجعل الإجابة أكثر وضوحا نسوق مثالين، الأول هو تاريخي حدث في العصر العباسي في عهد الخليفة المأمون،
والثاني من نوادر معاصرة.
المثال الأول: صابئة حاران
على الرغم من أن الخلافة الإسلامية كانت تتصارع مع عباد الأوثان، إلا أننا نجد الدين اليوناني القديم استمر في دار الإسلام وتحديدا في مدينة حاران حتى هجوم التتار ونهاية العصر العباسي، بل وأثروا في الحضارة الإسلامية أيضا، كيف حدث هذا؟!!
تقع مدينة حاران على الحدود مع بلاد الروم شرق انطاكيا بثمانين كيلومتر، كان يعيش هناك قوم يتحدثون السريانية ويتعبدون للكواكب، أنشأوا معبدا في حاران لكل الكواكب السيارة، وعاشوا في أمان يدرسون ويتأملون ويتعبدون، فلاسفة بغداد أمثال الكندي والسرخسي والمسعودي والفرابي اتخذوهم مثالا للمدينة الفاضلة. كتبوا عنهم وعن عاداتهم في القرنين التاسع والعاشر، وقد خرج من بين ذلك القوم فلاسفة وعلماء عبر أجيال مختلفة مثل ثابت بن قرة وسنان بن ثابت وقرة بن سنان. فكيف سمح الخلفاء بوجود هذا القوم وسط أرض الخلافة، بل كيف سمح الخلفاء أن يعملوا في بلاط الخلافة؟
بن النديم الذي كتب في فهرسه سيرة العلماء القدماء والعرب حتى آخر القرن العاشر يحكي عن زيارة الخليفة المأمون لمدينة حاران، فسأل الخليفة أهل حاران إن كانوا من أهل الكتاب وعلى أي دين هم، وانذرهم بالموت إن كانوا ليسوا من الموحدين، وبعد ذهابه أشهر بعضهم الإسلام وتنصّر البعض الآخر أما الجزء الثالث فاستعد للموت حتى أخبرهم شيخ عن تلك الآيات: ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62- سورة البقرة)”، “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة-69)”، “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (سورة الحج-17)”. وقد عاش أبناء الثلاث أديان الذمية (اليهود والنصارى والمجوس) تحت حماية الخليفة وفي ظل أمنه بفضل تلك الآيات، ولأنه لم يكن هناك أحد يحمل اسم الصابئون (على الأقل في حاران) في تلك الفترة وهم المذكورين في نفس الآيات، فقد أخذ هؤلاء القوم اسم الصابئة وبذلك أصبحوا من أهل الكتاب، وحصلوا بذلك على نفس حقوق أبناء الأديان الذمية. وعاشوا في سلام في دار الإسلام.
ولأنهم صاروا من أهل الكتاب فكان يجب أن يكون لهم كتاب ونبوة ونبي، فغيروا ملامح دينهم وعباداتهم وأصبح حكماءهم وفلاسفتهم أنبياء ومؤلفاتهم نبوة وكتب مقدسة، بل وزعموا أنهم أول الموحدين، ومذكورين في القرآن كالحنفاء.
المثال الثاني: شحاذ الإسكندرية الشامي
عقب المعارك الدامية الحادثة في سوريا أصبح من الطبيعي وجود اللاجئين السوريين في أماكن عدة في الوطن العربي، من بين تلك الدول هي مصر. وبات معلوما إن بسبب الظروف الضيقة التي يعاني منها هؤلاء اللاجئين أصبحوا يُشملون برعاية الكثير من المصريين أو على الأقل يكسبوا تعاطفهم.
فصار إنه من الأفضل على الشخص الذي يريد كسب تعاطف العامة في مصر، بأن يدعي أنه سوري، وهناك من الأمثلة الكثيرين، فهناك شخص في ميدان المنشية الصغيرة بالإسكندرية سائس يقوم بتنظيف السيارات بقطعة خرقة صغيرة، ويحاول تقليد اللهجة أو اللسان السوري حتى يكسب تعاطف من يقابلهم فيمنحوه المزيد من النقود. وقد قابلته من منذ فترة فدار بيننا هذا الحوار:
-كيفك؟
* تمام
-شو اسمك؟
* انت سوري؟
– “اييييييوة”
وهنا تحول الحوار ليلمس العاطفة أكثر
* معلش أعرف أن الحال صعب هناك.
– أنا جيت هنا مع العيلة كلها وأنا “الراجل” الوحيد ومعي مسئوليات “العيال” و”الحريم”.
وعندما يعبر أحد المارة ويتحدث مع السائس فيعتقد انه سوري فيتحدث معه باللهجة السورية هو الآخر ظنا منه انه سيفهمه بتلك الطريقة.
* من وين انت ؟
– من “العاصمة” … من “دمشق”… “إحنا” هناك تعبانين، والحال صعب هناك، لو معاك أي حاجة ممكن تساعدنا بيه لو حتى “مليم”.
ففي الحالتين السابقتين وحالات أخرى عديدة، تم التلاعب بالهوية، فصابئة حاران لو لم يكن قد أدعو الصابئة لكانوا في عداد الأموات، لكنهم اتخذوا تلك الهوية وبذلك ضمنوا حياتهم بل واستطاعوا إفادة مسيرة الحضارة بإبداعاتهم وأفكارهم. أما في حالة السوري المزيف لم نعرف ما هو مصيره لأنه لم يبرز علامات الهوية السورية بالكامل، فحتى لسانه لم يكن سورياَ فاللسان السوري ليس فقط ذلك التطويل الذي يستخدمه في نطق الكلمات، وبذلك لن يستطيع ضمان تعاطف العامة بشكل كامل وبصورة دائمة.