احتل الفقر منافذ الستر.. سكن جدران البيوت وأكل علي موائد الرحمة فصارت فارغة.. شابت رؤوس الناس ولم يسدوا أفواه بنيهم.. ولم يطعموهم من بركة الرحماء فحلوق الغلاء واسعة كحلق التنين تبتلع البركة قبل وصولها للمعوزين.. المسكنات صارت لا تجدي نفعا.. والكل يصرخ طاقة الفقر أوسع من عين الشمس في وضح النهار.. ضمن الصارخين كان يصرخ رغم العزة حتي تيبست أحباله الصوتية يأسا وجاء يطلب حلولا.. فمنذ ثلاثة أعوام جاءني رجل يبلغ من العمر 53 عاما.. يبدو عليه الحزن الشديد.. قال: أنا مش عايز مساعدة أنا عايز حقي من البلد.. من سنة 1979 وأنا باشتغل كهربائي في الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي.. وفي سنة 2003 أصبت بإنزلاق غضروفي واضطرت لأخذ بدون مرتب 6 شهور.. بعد شفائي رجعت الشغل لقيتهم فصلوني وأنا باشتغل معاهم من 24 سنة.. قالو أني ما عملتش إخلاء طرف.. لقيت روحي فجأة في الشارع وعندي ولدين وبنتين.. كان لازم اشتغل أي حاجة علشان أصرف عليهم.. وفعلا اشتغلت سايس في جراج.. لكن قررت ماسيبش حقي.. رفعت قضية في مجلس الدولة سنة ..2004 وفي سنة 2012 تم رفض الدعوي.. أي منطق يقول إن القضية تستمر في المحكمة 12 سنة, قضية فيها أكل عيش وتشريد.. اشتغلت أشغال كتير باليومية.. أرزقي يعني.. وفي الآخر اشتغلت في فرن.. شيال طاولة عيش.. لكن دخلي مش بيكفي أي حاجة إحنا سبع أنفار.. أنا وأمي ومراتي وأربع عيال.. أكل وشرب ومياه وكهرباء وإيجار سكن جديد 500 جنيه.. أجيب منين.
صمم الرجل علي رفض أي مساعدة من الباب.. عزة نفسه أقوي من احتياجه.. ورحل عنا ولم يأت إلا منذ عام حينما تراكم عليه الإيجار 2000 جنيه فقرر صاحب العقار طرد الأسرة.. كانت الابنة الكبري قد ووعت في حب جارها في العقار القديم.. أحبها الشاب وتقدم إلي خطبتها.. ولأن الستر هو معيار الخلاص بالنسبة للفقراء وافقت الأسرة أملا في ستر الأبنة الكبري وخلاصا من مسئوليتها.. أخرجوها من الدراسة بالمدرسة الثانوية التجارية.. إذ أشرفت علي الزواج.. لكن صاحب العقار لا علاقة له بالأمر.. تراكم الإيجار دفعه لإلقاء الأثاث في الشارع.. أسرة الشاب خطبب الابنة الكبري شاهدت الموقف.. وانكشف غطاء الستر عن الرجل وبناته.. ذهبت والدة الخطيب المخلص.. طلبت عقد القران وإلا فسخ الخطبة.. لم تجد زوجة الرجل سوي الخلاص من الخلاص المنتظر.. فصارحتهم إنهم لا يملكون ثمن جهاز الفتاة.. ومستعدون لفسخ الخطبة.. بكل قسوة قررت والدة الشاب فسخ الخطبة.
وصار التشريد والحزن عنوانا للأسرة المعدمة.. خرجت الفتاة من التعليم.. وصار الجميع في الشارع.. وفسخت الزيجة المنتظرة.. قررت زوجة الرجل أن تأتي إلي باب افتح قلبك.. وقرر الرجل التنازل عن عزة نفسه مقابل إيجاد سكن يأويهم بدلا من أيواء تراب الشارع لأسرة نصفها من النساء.. يعولها الرجل ويساعده أكبر أولاده.. الذي ترك التعليم الجامعي ليعمل سائق توك توك دخله 30 جنيها في اليوم.. بالكاد يكفي دخلهما تكاليف الحياة اليومية.. وتظل أزمة السكن كما هي.. عندما لجأت الأسرة إلي باب افتح قلبك تجاوزنا أزمة السكن بتحمل نفقات الإيجار المتراكم وتكلفة إيجار سكن جديد 500 جنيه للشهر.. وانتقلت الأسرة للعيش فيه.. لكن المصاريف اليومية وغلاء الأسعار لم يتوقفا.. فكلما حاولت الأسرة أن تستر نفسها يكشف الغلاء حوجها.. وجاءت السيدة مرة أخري لتعرض عرضا محددا فقالت: حالتنا تعبانة جدا بنأكل طقة ونجوع اتنين.. ومافيش فايدة.. ابني وبنتي خرجوا من التعليم ومافيش فايدة.. فسخنا خطوبة البنت لأننا ما نقدرش علي جهاز عروسة ومافيش فايدة.. البنت والواد التانيين صغيرين جدا ميانفعش يشتغلوا.. الولد الصغير عنده خمس سنين.. خلفته غلطة وأنا عارفة إننا مش هانقدر نصرف عليه.. لكن ماكنتش أقدر أغضب ربنا وأقرر أنه مايجيش الدنيا بعدما ربنا قرر يكون له نصيب فيها.. لكن حتي بعد ما جه الدنيا متعذب لأنه عنده كهرباء زيادة في المخ وبتجي له نوبات تشنج وبيحتاج علاج دائم.. الدنيا جاية علينا من كل ناحية.. ومهما نحاول نسد طاقة الفقر مش قادرين.
حاولت اشتغل في البيوت.. لكن صحتي في النازل وعندي خمسين سنة والناس عايزه بنت صغيرة عفية وماحدش قبل يشغلني.. وأنا مش متعلمة وما عرفش أعمل حاجة ولا في إيدي صنعة.. لكن مش قادرة أشوف جوزي وعيالي بيتعذبوا واقف اتفرج.. يا أستاذة أحنا مش بنشوف اللحمة إلا لو حد حن علينا بكيلو في الأعياد.. حتي الفول والعدس غاليين علينا.. باروح أجيب حزمة جرجير البياعة تقول لي الحزمة بجنيه أصل الدولار غالي.. رغيف العيش مابيشبعش.. علشان الواحد يسد جوعه عايز اتنين أو تلاتة عا لأقل.. أنا مش عايزه حاجة إلا أننا مانمدش إيدينا للناس علشان نأكل.. هو ده كتير؟ مش عايزه نشحت علشان نسد جوع عيالن.. أنا خايفه علي عيالي اليأس ممكن يخليهم يعملوا أي حاجة.. وهو ده اللي خلاني أجي تاني.. كنت مكسوفة أطلب منكم طلب تاني.. لكن لو ممكن تشتروا لي ماكينة خياطة وأنا ممكن أعمل ملايات وأبيعها لأني مش بأعرف أعمل حاجة تانية.. وأوعدكم ما تشوفيش وشي تاني.
أجبتها: لم نتأخر عنكم ولن نتأخر ولن نترككم للجوع ينهش أجسادكم اطمئني.. ثمن الماكينة ألفين جنيه فقط وألف جنيه قماش لتبدأ لعمل.. أي أن ثلاثة آلاف من الجنيهات تمكنهم من الستر.. فهل يحصلون عليها؟.