قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (590)
وكأن مصر ناقصها مشاكل حتي تنفجر مشكلة تسريب الامتحانات وسط كل ما تعاني منه من مشاكل -سواء ما يتصل بخروجها من كبوتها أو ما يرتبط بمؤامرات دنيئة تحاك لإسقاطها- وهكذا أضيفت مشكلة تسريب الامتحانات إلي سلسلة وجع قلب مصر مستنزفة الرأي العام والإعلام مع خبراء التعليم والمسئولين عنه.. هؤلاء المسئولون الذين لا يحسدون علي موقفهم الدقيق -والمحرج سياسيا- بعد أن أكدوا أنهم اتخذوا كل الاحتياطات للحيلولة دون تسرب أوراق أسئلة الامتحانات وللقضاء علي محاولات الغش التي تفشت, فإذا بهم يصدمون بتداول الأسئلة والإجابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما أربكهم ودعا إلي إلغاء امتحان التربية الدينية وتحديد موعد لاحق لإعادته.
وتقفز إلي الأذهان واقعة تسريب الامتحانات التي وقعت عام 1961 وأدت إلي إعادة جميع امتحانات الثانوية العامة وقتها, وتندر بها البعض معتبرين أن الأمر يستلزم أن تفعل وزارة التربية والتعليم نفس الشئ هذا العام.. لكنهم يتجاهلون أن ما كان يصلح منذ أكثر من نصف قرن يصعب تكراره اليوم, فأعداد الطلبة وقتها كانت تتضاءل بالنسبة للأعداد الغفيرة التي تجلس لذات الامتحان اليوم, علاوة علي استحالة ضمان التحصين الكامل للامتحانات ضد التسريب حتي في حالة إعادة الامتحان إزاء تفشي وتوحش الوسائل الإلكترونية والتكنولوجية التي يبرع في استخدامها وتطويعها وتطويرها زبانية التسريب والغش.. صحيح أن الجهود الأمنية تعقبت هؤلاء المجرمين للإيقاع بهم وتقديمهم للعدالة ليدفعوا ثمن تلك الجريمة, لكن يظل التساؤل في جميع الأوساط: وماذا عن استفحال ظاهرة الغش وكيف نقضي عليها؟.. إن بقاء نظام التعليم علي ما هو عليه واستمرار نظام الامتحانات كما هو, هما بمثابة المرض الذي ينتج عرض الغش ويجعل من وسائل إتاحة الغش سلعة رائجة.
أعلم أن جهودا دؤوبة تجري لتطوير العملية التعليمية بكل جوانبها من مناهج ومدرسين ووسائل تعليمية, بالإضافة إلي ما أعلنه وزير التربية والتعليم عن دراسة تطوير نظام الامتحانات بدءا من العام القادم.. لكن الوزير لم يفصح عن ملامح هذا التطوير.. وهنا تبرز حتمية الاعتراف بأن نظام التعليم بالتلقين والحفظ واسترجاع المعلومات طبقا لنماذج إجابات محددة معدة سلفا ومحفوظة هو نظام عفي عليه الزمن, يجعل من الطلبة مجرد أجهزة تسجيل للمعلومات دون فهم ولا استمتاع ولا إبداع ويترك الطالب الفاشل أمام وضع يائس فيسيل لعابه أمام اللجوء للغش.. فكيف يتم قطع الطريق أمام ذلك المسعي الشرير؟
** يجب أن تبتعد أسئلة الامتحان تماما عن استدعاء إجابات نمطية مستظهرة من الكتاب أو نماذج سابقة التجهيز من المعلومات, وذلك هو أصدق اختبار لمعرفة الطالب المتفهم والمستوعب للمعلومة وفرزه عن الطالب الذي اكتفي بالتلقين والحفظ.. وهنا أذكر كلمات أحد الموجهين الأجانب الذين جاءوا إلي مصر لتفقد المدارس التي تقوم بالتدريس تبعا لمناهج الشهادة البريطانية المعادلة لشهادة الثانوية العامة -وكان ذلك من نحو ربع قرن من الزمان- فقد قال موجها كلامه للأولاد والبنات في الفصل: إننا نعمل علي وضع أسئلة الامتحان طبقا لسياسة تستهدف الاجتهاد والإبداع من التلميذ ولا يستقيم معها اللجوء إلي المقاطع والنصوص الواردة في المنهج, ومن منكم يكتفي بإجاباته معتمدا علي تلك النصوص والمقاطع لا يعد نفسه بأكثر من تقدير جيد لأن التقديرات الأعلي تكون من نصيب المجتهدين والمبدعين.
** العالم كله توقف عن تقييم أسئلة الامتحانات -خصوصا في المواد المعلوماتية- بحيث يحتاج الطالب إلي ملء أوراق الإجابة بما يكتب, وحل محل ذلك الأسئلة العديدة التي ترد معها ثلاثة أو أربعة احتمالات للإجابة وما علي الطالب إلا وضع علامة علي الإجابة التي يختارها للرد علي السؤال.. وذلك من شأنه اختبار الفهم والاستيعاب للمنهج دون ضرورة الاستظهار, علاوة علي التقليل من شأن رهبة الامتحان ووطأته.
** لا يمكن أن يستمر امتحان الثانوية العامة هو عصب الحياة أو الموت الذي يدمر أعصاب الطلبة وذويهم لاجتياز المرحلة المدرسية في التعليم, فيجب إشراك أعمال السنة في تقييم حضور وانتظام وأداء الطالب وتخفيض نصيب الامتحان في تحديد درجاته النهائية. ولا يخفي علي أحد فائدة تلك السياسة في عدم إهدار جهد الطالب علي مدي المرحلة الدراسية وعدم تسليط سيف الامتحان علي رقبته إذا جانبه التوفيق في بعض الأسئلة.
** ما معني إعطاء امتحان الثانوية العامة تلك المعايير القومية التي تكسبه الرهبة التي تنعكس علي كل المتصلين به من طلبة ومسئولين؟.. لماذا يجب أن يكون امتحانا موحدا علي مستوي جميع محافظات الجمهورية ومدارسها بحيث تصبح النتائج وخيمة ويرتبك الجميع إذا تم اختراق منظومة سرية الامتحان أو حدث شئ يهدد عقده؟.. ألا تستطيع نفس لجان وضع الأسئلة التابعة لوزارة التربية والتعليم تصميم أكثر من نموذج لامتحان أي مادة علي نفس المعايير ودرجات الصعوبة المطلوبة بحيث تقسم الجمهورية جغرافيا إلي قطاعات لكل منها نموذج خاص بها- أو حتي لكل محافظة نموذج خاص بها؟.. لماذا نجعل من الثانوية العامة عنق الزجاجة الضيق الذي يعسر المرور منه إلي الحياة بعد المدرسية؟!!.. ويا ليته عنق زجاجة.. إنه في نظر الكثيرين ثقب إبرة!!!