حين انعقدت قمة دمشق, والتي التأم شملها بصعوبة بالغة في مثل هذه الأيام من العام الماضي, بدت الجامعة العربية حينئذ وكأنها دخلت في حال موت سريري ولم يعد أمام الدول المتناحرة تحت خيمتها الممزقة سوي وقف العمل بأجهزة التنفس الصناعي التي تصلها بعالم لم تعد قادرة علي البقاء فيه! ويبدو أن الدول المتحلقة حول الجسد المسجي بلا حراك أدركت أنها غير قادرة حتي علي اتخاذ قرار حاسم من هذا النوع. فقطع أجهزة التنفس الصناعي عن جسد حرصوا طويلا علي إبقائه نابضا بلا حراك لا بد أن تتبعه سلسلة أخري من القرارات ربما كان أهمها: وماذا بعد؟ هنا اكتشف الجميع أنه لن يكون أمامهم سوي واحد من بديلين: الأول, أن يمضي كل إلي حال سبيله باحثا عن خلاصه بنفسه, والثاني: أن يضربوا خيمة أو مظلة أخري تقيهم شر عواصف الصحراء المتجمعة في الأفق! وعندما بدأت الدول المتناحرة في حساب المكسب والخسارة, تبين لها أن الكلفة هي أكبر من قدرتها علي حملها; لذا اختارت الحل الأسهل وقررت ترك أجهزة التنفس الصناعي تقوم بمهمتها إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. هكذا بدا لي حال الأمة عشية قمة دمشق.
ولأن دوام الحال من المحال, فبعد قمة دمشق لم يكن باستطاعة الدول التي آثرت القعود ولم تذهب أصلا أن تعود للتحصن من جديد داخل خنادقها القديمة. فسرعان ما هبت علي العالم وعلي المنطقة رياح عاتية وصلت ذروتها مع الأزمة المالية العالمية, والتي أتت علي مدخرات الأغنياء منهم, وبالحرب العدوانية علي غزة, والتي سفكت دماء الفقراء منهم. وبدلا من أن يفيق الزعماء العرب من غفوتهم ويتنبهوا إلي حقيقة ما يدور حولهم ويتناسوا خلافاتهم ويتضامنوا لمواجهة الأخطار الزاحفة نحوهم والمحدقة بهم, راح كل منهم يسعي عبثا للنجاة بنفسه. وإذا كانت تأثيرات الأزمة المالية راحت تتسرب في الأخاديد العربية الغائرة فإن دماء ضحايا الحرب علي غزة راحت تسيل أنهارا وتصل عبر القنوات الفضائية إلي داخل غرف نوم الجميع. وحين طالت الحرب الإجرامية الي أكثر مما توقع الكثيرون, نتيجة الصمود البطولي المذهل وغير المتوقع للمقاومة الفلسطينية, بدأ الشارع العربي يتحرك مطالبا بوقف المجزرة الرهيبة, وراح يضغط علي الموقف الرسمي إلي أن انفجر من داخله في شكل حرب قمم اندلعت مع انعقاد قمة الدوحة وامتدت نيرانها إلي شرم الشيخ إلي أن وصلت ألسنة لهبها إلي الكويت والتي لم يستبعد البعض أن تنتهي قمتها بإعلان وفاة الجامعة العربية رسميا. غير أن تحركا مفاجئا وغير متوقع من جانب خادم الحرمين الشريفين نجح في وقف الاندفاع نحو الهاوية السحيقة في اللحظة الأخيرة.
لم يدر بخيال أحد أن يتمكن التحرك السعودي من إحداث تغيير درامي في نمط التفاعلات العربية, والذي كان قد وصل ذروة حالته الصراعية, وإنما كان أقصي ما تطلع إليه أكثر المتفائلين جنوحا أن ينجح في وقف الاندفاع نحو الهاوية, وأن تتواصل الجهود لترميم ما تهدم قبل أن يحين موعد انعقاد قمة الدوحة, وهو ما حدث بالفعل. فبعد نجاح السعودية في التوصل إلي ما يشبه الهدنة في قمة الكويت, سعت لتنقية الأجواء في علاقاتها المتوترة مع سورية أولا, ثم راحت تحاول تخفيف حدة الاحتقان في العلاقات المصرية السورية الأكثر توترا ليصبح الطريق ممهدا لانعقاد قمة رباعية في الرياض, شاركت فيها الكويت مع السعودية ومصر وسورية. وهنا فقط بدأ الأمل يراود الكثيرين في إمكانية التئام حبات العقد العربي مرة أخري خصوصا أن المثلث المصري السعودي السوري, والذي لعب دوما دور القاطرة في النظام العربي, بدا وكأنه يعود إلي الحياة من جديد. لذا توقع الكثيرون أن تصبح قمة الدوحة هي أم القمم, كما أطلق عليها البعض, وأن تشهد انطلاقة جديدة علي طريق العمل العربي المشترك. صحيح أنه كان واضحا أن القمة الرباعية لم تتمكن من تنقية الأجواء العربية بالكامل بعد, خصوصا بعد أن راح البعض يحاول صك مصطلحات جديدة علي الطريقة الأمريكية ويتحدث عن إدارة الخلافات, غير أن ذلك بدا أمرا طبيعيا بالنسبة الي عملية ولادة متعسرة لمصالحة عربية تجري في ظروف بالغة التعقيد. لذا لم يدر بخلد أحد أن مفاجأة سيئة من العيار الثقيل تنتظر قمة الدوحة. فقد لاحظ الجميع علي الفور عدم مشاركة وزير الخارجية المصري في الاجتماع التحضيري للقمة العربية واكتفائه بإرسال مدير مكتبه لينوب عنه في الاجتماع, وما هي إلا ساعات قليلة حتي تبين أن الرئيس حسني مبارك لن يأتي إلي الدوحة وأن وفدا برئاسة وزير الشؤون البرلمانية والقانونية سيمثل مصر في القمة.
كنت, مثل كثيرين غيري, أدرك أن الأجواء ليست صافية بين القاهرة والدوحة, وأن الرئيس مبارك غاضب من قطر ويحس بعدم ارتياح للطريقة التي تصرفت بها إبان العدوان الإسرائيلي علي غزة. غير أنني تصورت أن لقاء الرجلين وجها لوجه في قمة الكويت وحضورهما جلسة المصالحة التي رعاها خادم الحرمين الشرفين, قد خفف من حدة التوتر بينهما. وحتي مع افتراض أن ذلك لم يتم, فلم أتصور قط أن يصل الأمر إلي حد امتناع الرئيس مبارك عن المشاركة في قمة الدوحة, بل وتعمده تخفيض مستوي تمثيل مصر في هذه القمة.
لا أريد هنا أن أدخل في تحليلات تتعلق بالأسباب التي أدت إلي امتناع الرئيس مبارك عن المشاركة في قمة الدوحة, فلهذا مكان ومقال آخر, لكنني أود أن أقول إن هذا القرار يشي بما هو قادم من عظائم الأمور. فخلف الأسباب المعلنة, والتي تبدو لي قليلة الاهمية بالنظر إلي خطورة القرار وحساسية اللحظة, والتي تبذل فيها جهود مضنية للم الشمل العربي, وهي جهود تقوم مصر نفسها بدور مهم للغاية فيها من خلال مساعيها للم الشمل الفلسطيني, توجد أسباب خفية لا مجال للخوض فيها الآن. لكنني أود هنا أن ألفت النظر إلي أمر يبدو لي بالغ الأهمية وهو عدم اتساق هذا القرار مع المفهوم الصحيح لمصطلح إدارة الخلافات والذي حاولت الجامعة العربية أن تؤكد أن العرب اتفقوا عليه. فمفهوم إدارة الخلافات يعني في أحد أبعاده المهمة ألا تأخذ الخلافات طابعا شخصيا وأن يتم الاحتكام إلي قواعد عامة وإلي آليات مؤسسية لحسمها. لكن إذا اعتبر كل زعيم دولة أن خلافه مع زعيم دولة أخري هو مبرر كاف لمقاطعة المؤسسة المنوط بها أو التي يفترض أن يتم الاحتكام إليها لمناقشة وحسم الخلافات, فمن شأن هذا الموقف أن يضعف من آلية حسم الخلافات نفسها, بدلا من تقويتها.
لا أريد أن أقلل من أهمية أجواء المصالحة التي سادت في قمة قطر, أو من الجهد المبذول للوصول بهذه المصالحة إلي المستوي الذي يسمح بالشروع في بناء نظام عربي أكثر قدرة وفاعلية, وأتمني من كل قلبي أن تنجح الجهود الرامية لتصفية وتنقية الأجواء بين الرئيس مبارك والشيخ حمد بن خليفة, وبين العقيد القذافي وخادم الحرمين الشريفين, وبين جميع القادة والزعماء الذين لا يمكن للنظام العربي أن ينطلق من دونهم. غير أنه يجب أن يكون واضحا أن المصالحة بين القادة ليست هدفا وإنما وسيلة لتحقيق هدف, وهو تحصين مناعة الأمة لتمكينها من مواجهة المؤامرات الخطيرة التي تحاك لها ليس من خارجها فقط ولكن من داخلها أيضا.
ومع ذلك فالأمانة تقضي أن نتجنب خداع النفس وأن نعترف بوجود معضلة بنيوية في صلب النظام العربي. فلا يمكن إدارة الخلافات من دون مؤسسات أو آليات منضبطة تدار وفق قواعد واضحة ومحددة ومقبولة من الجميع وملزمة لهم. لكن كيف يمكن لدول عربية ليست لديها مؤسسات ولا تعرف حكم المؤسسات في الداخل أن تقيم مؤسسات تحتكم إليها علي مستوي الإقليم؟ للأسف لن تكون هناك مؤسسات عربية فاعلة قبل أن تكون هناك مؤسسات قطرية أو وطنية فاعلة.
لذا يبدو لي أننا نشهد نهاية مرحلة لكنني لا أري بعد معالم أي بداية لمرحلة جديدة!
* كاتب مصري