و يقول الباحث فى رسالته ان علم الله الكامل يرجع إلى أن الله هو الموجود بذاته والذي لا يمكن أن يتصور العقل أسمى وأفضل منه، كذلك الله كائن روحانيّ عاقل، هو الفعل الخالص المجرد من كلِّ مادة. وكون الله هو مبدأ ومصدر لكل عقل وإدراك، لذلك يجب أن تكون معرفته مطلقة غير محدودة.
و يوضح ان الله يعرف ذاته معرفة تامة: إن الله يدرك ملء وجوده وجوهره في أعماق ضميره، وهكذا يعرف نفسه، لأنه كيف يكون الله كائناً ذاتيًا كاملاً وفي نفس الوقت لا تكن له معرفة كاملة بذاته مشيراً ان سمات معرفة الله هى ذاتية غير مكتسبة، معرفة أزليّة ليست مقترنة بالزمن، علم يشمل كل الأمور في وقت واحد، علم غير متغير، علم يشمل كل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، علم غير مقتصر على الحوادث الكبيرة فقط، بل و أصغرها و اوضح الباحث هنا ان الكتاب المقدس ذكر لنا عن الله أنه “لَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا” (عب4 :13)،
و أشار الراهب القس بنيامين ان علم الله السابق هو معرفته منذ الأزل بكلّ ما يحدث في كل زمان على الإطلاق. فالله له المعرفة الكاملة، التي هي فوق الزمن، ومنها المعرفة المستقبلية التي تعرف بـ “علم الله السابق”. والأمور المستقبلية ليست فقط مدركة من الله، إنما هي أيضًا تحت سلطانه. وهو يقدر على تغييرها إذا شاء.. موضحاً ان علم الله السابق علمٌ يقيني ثابت، وليس عن طريق الاستنتاج كما يحدث للبشر في معرفتهم. ومن الأدلة نظرية على حقيقة علم الله السابق: إن الله يعرف ذاته ويعرف قدرته المطلقة، إدراكًا كاملاً. كذلك لو كان هناك أمرٌ خفي على الله، ولم يعرفه إلاَّ عند حدوثه، فإن هذا يعني أن الله اكتسب معرفةً وعلمًا جديدًا. وهذا يتناقض مع كون الله كاملاً في ذاته، ولا يحدث له تغيير. الله يعلم جميع الأشياء المستقبلة ويراها كما لو محققة بالفعل.
و تحدث الباحث فى رسالته عن مفهوم الحرية في الفكر الفلسفي، فأوضح ان الحرية هي ملكة خاصة تميز الكائن الناطق من حيث هو موجود عاقل تصدر أفعاله عن إرادته هو. على أن سقراط وافلاطون يريان أن الإنسان لا يفعل الشرّ بإرادته، بل عن جهل بالخير، فيعتبران أن ارتكاب الشر فعل لا إراديّ وسببه الجهل، فلا يفعل الإنسان الشر إن عرف بأنه شر، بل يفعله لأنه يتوهم بأنه خير. فالإنسان حر مريد لكونه عاقلاً وكذلك لكونه متغيرًا ومتحولاً.
و اوضح هنا مفهوم الحرية في الكتاب المقدس وعند الآباء قائلً ان آدم رغم وجوده في الفردوس، في الحضرة الإلهيّة، فقد تعدى الوصية بإرادته وأطاع الفكر الشرير. يقول القديس أُغسطينوس: “إني متاكد من أن النفس لم تسقط في الخطيئة، لا بخطأ من الله، ولا مضطرة لا من الله ولا منها. إنما سقطت بإرادتها الذاتية”.
و أكد الراهب القس بنيامين فى بحثه انه هناك أدلة فلسفية وعقلية على وجود الحرية فقال إن الحرية الإنسانية هي اتفاق عام للبشر جميعًا. كما سيترتب على منطق الحتمية فقدان كلمات عديدة مثل الرفض، الترقب ، ضبط النفس، الندم. كذلك يتعارض منطق الحتمية مع المسئولية الأخلاقية!! يقول أفلاطون “المسئولية على من اختار أما الله فبغير ذنب”، مؤكداً هنا ان هناك أدلة كتابيّة وآبائيّة على وجود الحرية فمنح الله الإنسان حرية وسلطان على سائر المخلوقات “وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ” (تك1 :28).. و مسئولية الإنسان تجاه الله أو تجاه ذاته أو الآخرين تحتمل إمكانية الخطأ، لذا فالخطيئة التي يفعلها الإنسان، في حدود مسئوليته، وهذا ما قصده يوسف الصديق في قوله “فَكَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟” (تك39 :9).
و أضاف ان حرية الإرادة تميز الإنسان كمخلوق عاقل عن غيره من المخلوقات غير العاقلة، ووجود تباين في الطبيعة الإنسانيّة، وكذلك وجود الشر، ووجود دينونة دليل على وجود الحرية. الإنسان الواحد يسعى تجاه أمور متباينة. كذلك لو كان الإنسان لا يملك إرادة حرة، لن نستطيع أن نقول إن هناك بعض الناس أخيار والبعض الآخر أشرار، إن الله لم يخلق الإنسان مثل باقي المخلوقات كالأشجار والحيوانات التي لا تستطيع أن تفعل أفعال حرة باختيارها.
و يوضح الباحث فى رسالته العلاقة بين الإرادة الإنسانية وعمل النعمة فيقول ان النعمة لا تمنح عصمة للإنسان: ولكنها تعمل مع الإرادة الإنسانيّة، الذي قال “تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ” (في2 :12)، وهنا دور الإرادة الإنسانية في عمل الخلاص، أعقبها بقوله “لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ” (في2 :13) يوضح دور النعمة في الخلاص.
و ناقش فى بحثه موقف الله من الحرية الإنسانيّة.. فتسأل هل من تعارض بين علم الله السابق وحرية الإنسان؟ و يجيب الباحث يرى المعترضون أنه لا يمكن أن تتحقق حرية الإرادة الإنسانية في وجود علم الله السابق، وحول هذا الموضوع، هناك ثلاثة فرق: الأول: ينكر الإرادة الحرة للإنسان لتحقيق علم الله السابق: الكالفينيون، هوميروس (850 ق. م.)، هرمان هورن. ومن الذين ينكرون حرية الإرادة الإنسانية ويعتقدون بالقدرية: الفلسفة اليونانية: هيراقليطس، هرمر في الأليازة، ألكسندر.. الثاني: ينكر علم الله السابق لتحقيق الإرادة الإنسانيّة: ومنهم شيشرون (106ق.م. -43ق.م.).. و الفريق الثالث: الذين يجمعون بين الفريقين: الرواقيون ومالبرانش.
و تناول الباحث حرية الإرادة البشرية وفاعليتها رغم وجود علم الله السابق فقال البشر كمخلوقات عاقلة حرة، يتدخلون بفاعلية في مجريات التاريخ، ولا يتحولون إلى آلات ميكانيكية. والله له معرفة سابقة للأحداث، فهو يعرف كل فرد وتفاصيل حياته قبل أن يُولَد كما قال لإرميا “قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ” (إر1 :5). وبهذا تتحقق حرية الإرادة الإنسانية ومسئوليتها تجاه الأحداث، مع علم الله السابق بما يفعله الإنسان، ولا يكون الله هو القاضي الجبري، و أوضح ان الله لا يعاملنا بالجبرية فال لا تؤمن المسيحية بالقدرية، الله خلق الإنسان ومنحه الحرية. فأزلية الإرادة الإلهية، وعلمه السابق وقدرته الكاملة تسمح بحرية الإرادة الإنسانية. بمعنى أنه منذ الأزل حدد الله الترتيب الأزلي، ولكنه لا يفعل ذلك بقدر سابق أو قضاء مبروم بل بحسب مشيئته أو بسماحه. أي يتعامل الله معنا بعناية إلهية.
و تحدث عن الجبرية ومشكلة الاختيار فقال أسس الاختيار تؤكد الحرية الإنسانية، فالاختيار مرتبط بحياتنا المقدسة: “وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً” (رو8 :30).. دائمًا الذين يتكلمون عن الجبرية يذكرون هذه الآية، دون الآية السابقة لها “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ” (رو8 :29). لاحظ قوله “سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ” مسبوق بقوله “سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ” فالمعرفة والتعيين أزليان. . وكذلك سبق المعرفة بالإرادة الحرة للإنسان: والدليل على ذلك قوله: “تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ” (في2 :12، 13). تمموا: الحرية والمسئولية البشرية. اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا: عمل الله وعمل النعمة.
و أوضح فى بحثه ان الاعتراف بالقدر، هو الاعتراف بأن الله ليس سوى تلك الأشياء التي تتحول وتتغير على الدوام بتتابع الوقت، كذلك يعني أنه لا يوجد ما يسمى بالرذيلة والفضيلة على الإطلاق، وبأن الله لا تهمه أفعال الإنسان. كذلك الإيمان بالجبرية يؤدي بنا إلى تقديم إنتقادات ضد كل معاملات الله، فلن نتوقف عن أن نلوم خالقنا. كما يغيِّر ويبطل كل ما أعطاه لنا، بواسطة الأنبياء والقديسين. وعبثًا توجد القوانين والقضاة. كما يرى أن التعليم بالقدرية يجلب الفوضى والانهيار، فلن يقوم الزارع بعمله، ولن يُلقي البذار. كما يؤدي إلى انهيار المباديء ويثبِّت الظلم بين الناس.. مضيفاً ان القضاء الجبري يقود للإعتقاد بأن العمر محدد وهذا يؤدي إلى أهمال وسائل الوقاية والحذر، كذلك إلى الإيمان بأن الرزق محدود، وتصور الإنسان عاجز عن أن يعمل أي شيء لحماية نفسه من أي خطر أو دمار، وتسلب الإنسان سلطانه الذي منحه الله له على الطبيعة: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ” (تك1 :28).