لقد انقضى أربعون سنة منذ ذلك اليوم السعيد الذي فيه ظهرت العذراء مريم وللمرة الأولى في ناحية فاطيما . ولكن مات فرنشيتسكو وجاسنتا القرويان الصغيران، دون أن يفكرا في طلب شفاؤهما من ملكة السماء، وكيف يستطيعا المكوث في هذه الأرض بعدما شغفا برؤية أم الله ؟
ولكن مزار فاطيما لم يمت ومازال مقصد الحجاج. فعند فجر ١٣ مايو ترى شعب البرتغال بأكمله محتشداً في تلك البقعة الصحراوية، ومئات السيارات والباصات التي تنقل ألوف المؤمنين تعرقل السير وتقفل الطرقات، بحيث أن رجال البوليس لا يستطيعون إلاّ بالعناء والجهد الشديد حفظ النظام . ومن الغريب أن رجال الأمن يقومون بواجبهم بهدوء وبدون ضوضاء للحفاظ على قدسية المكان، ويخشون أن تزعج أصواتهم تلك الأماكن التي لا ترتفع فيها إلاّ الصلوات والتضرعات، ونغمات التراتيل والترانيم لتكريم العذراء والدة الإله القديسة .
وفي الساعة الحادية عشرة مساءً، تشهد فاطيما منظراً تعجز الأقلام عن وصفه: مائتا ألف شخص سجدوا والشموع المضاءة بأيديهم، وترتفع صلواتهم كأنها صوت شخص واحد، والمائتا ألف شمعة التي بأيديهم ترتجف لنسيم الليل العليل، وكأنك أمام غابة كثيفة وارفة الأشجار جذوعها أجسام بشرية، وأغصانها أذرع ضارعة إرتفعت إلى السماء للصلاة، وثمرها تلك الشموع المضاءة والتي كانت رمزاً لسعير الحرارة والحب . وكأن نسيماً سماوياً قد هزّ تلك الأشجار الحية فارتفعت منها نغمة سماوية تتردد فيها تلك الصلاة الجميلة : ” السلام عليكِ يا مريم ” .
وفي الساعة الحادية عشرة والنصف يبدأ التطواف، فتنتقل المائتا ألف شمعة من مكانها للإشتراك في هذا التطواف المهيب والرائع، الذي يضم مختلف طبقات الشعب.. وقد أغرى هذا العيد العظيم الجنود في ثكناتهم، فاجتازوا يومين لحضور هذا الحفل الشيّق، وقد انضمّ لهذا الموكب نساء عجائز وفتيات فلاحات في ثيابهنّ القروية التقليديّة .
حينئذٍ ترتفع أصوات الأناشيد المريمية في نغمات هادئة ومؤثرة، فتمتزج أصوات الرجال القوية مع أصوات النساء الناعمة في وحدة متكاملة ورائعة، مؤلفين بذلك جوقة تراتيل عظيمة يتردد صداها في جميع أنحاء الصحراء . وبعد هذا التطواف مباشرةً يوضع على الهيكل القربان المقدّس ليسجد أمامه المؤمنين .
ما أجمل وما أحلى تقوى هؤلاء المؤمنين الذين بعد مشقةٍ التعب في سبيل الخبز اليومي يحطون رحالهم في هذا المكان للإختلاء والتأمل والصلاة، وكأنك ترى قبساً من النور السماوي البهي الذي يملأ قلوبهم، ويسطع على وجوههم فيلقي عليها مسحة من الروعة السماوية ، ويبعدهم عن ضوضاء هذا العالم .
فبينما تعصف الأمواج تجدهم ملتفين حول يسوع في هذه الربوع المقفرة ، تاركين خلفهم الأمور الأرضية الزائلة وكأنهم اجتازوا هذه الدنيا وسكنوا الأبدية .