على بعد مائة وعشرين كيلو متراً من مدينة لشبونة عاصمة البرتغال ، وفي جوف الصحراء الجرداء تقع بلدة ” فاطيما ” الصغيرة تحيطها من كل الأطراف الرمال الكثيفة والصخور الموحشة التي تبرز قممها المدببة ، مكشرة الأنياب مهيبة الطلعة ، يصور لونها القاتم في مخيلة من يلقي الأنظار حولها ، كأنها أشباح تتشح بأردية سوداء تحكي لوعة وحدتها أجيالاً بعد أجيال تمر تباعاً ولا تمتد يد العمران والبناء وترثي لحالها وتيتمها ، فتشيد حولها ما يؤنسها ويخفف من مرارتها.
وإذا ما مرّ على الرأئي أحد سكان هذه البلدة ، وهم عدد قليل من البسطاء التعساء ، لوجد ما يعلو بشرتهم من كآبة ومذلّة ، طبعها على جباههم ما ذاقوه من مرارة الفقر والقحط والحرمان عاماً بعد عام ، ويخيم عليهم الصمت الرهيب والسكوت التام . ولم يختر على بال أحد من سكان هذه البلدة أن مدينتهم الصغيرة المجهولة ستغدو يوماً قبلة الأنظار ، وستكون مكاناً مقدّساً ومزاراً للعالم بأسره .
أنا سيدة الوردية المقدّسة :
صباح يوم الثالث عشر من شهر مايو / ايار سنة ١٩١٧ ، كان يوماً حاراً جداً ، وكان شعب البرتغال يخوض المعركة الرهيبة باسم موقعة الفلاندر ، وأثناء الحرب العالمية الكبرى ، تلك الموقعة التي أفسح لها التاريخ صفحات طويلة من صفحات البطولة التي كلّلت هامات البرتغاليين بأكاليل النصر والفخر والعزة .
كانت فتاتان قرويتان هما : ” لوسيا ” و” جاسنتا ” ، ومعهما صبي صغير يدعى ” فرنشيسكو ” ، وهم من أهالي بلدة فاطيما يرعون قطيعا من الغنم في حقول البلدة . وبينما كانوا منهمكين في حراسة قطيعهم والعرق ينصب من جبينهم لحرارة الجو الشديدة ، إذ برياح قوية تهبّ عليهم وقد أكفرت السماء واختفى من الأفق في لمح البصر قرص الشمس الوهاج ، وأخذ قصف الرعد يزلزل المكان ، والأولاد الثلاثة في ذهول ووجوم ، وقد عقدت الدهشة ألسنتهم وملأ الرعب قلوبهم ، وشخصت أبصارهم نحو السماء ، طالبةً الرحمة ، وما هي إلاّ لحظات حتى لاحت لهم سيدة رائعة الجمال متسربلة ثوباً ناصع البياض ، وكان شعرها الذهبي البراق مصفف فوق جبهتها كتاج من الذهب الخالص . وأخذت السيدة تقترب منهم رويداً رويداً ، وكلما اقتربت ، كلما خفّت الزوبعة وتلاشى الرعب من قلوبهم وحلّ مكانه الهدوء والسلام ، إلى أن وقفت امامهم هذه السيدة والابتسامة العذبة تعلو شفتيها ويطفح منها العطف والحنان والرحمة ، وبصوت ملائكي رخيم كأنه موسيقى هادئة تنبعث من السماء ، أخذت تبادلهم أطراف الحديث قائلةً لهم : ” أنا سيدة الوردية المقدّسة ، وكم تؤلمني خطايا وآثام البشر التي تطعن قلب السيد الفادي وتمزق أحشائي ” .
وبعد أن أمضت معهم بعض الوقت إختفت عن أنظارهم . وكان الأولاد الثلاثة لشدة فرحهم ، يترقبون ظهورها في نفس التاديخ من كل شهر ، والعذراء لم تخيب رجاءهم ابداً ، إذ ظلّت تظهر لهم في نفس الميعاد حتى الزيارة الرابعة .
( للمقال صلة )