كان قداسة البابا شنودة الثالث 1971-2012 متعدد المواهب والفضائل, قلبه عامر بالحب, وعقله مشغول بالمعرفة, ونفسه فياضة بالتسامح, كان من الطبيعي أن يحصل علي جائزة التسامح العالمية, ولما لا وهو رئيس ديني مشهود له, هنا أريد أن أعبر عن رأيي الشخصي في حصول أي رجل دين, من أي دين علي هذه الجائزة, فجائزة مثل هذه يجب ألا تذهب إلي رجل دين, لأن رجل الدين يجب أن يكون التسامح من صلب شخصيته, والحب فلسفته, وبذلك يمكن تشجيع الساسة وقيادات العمل الأخري علي التسامح بإهدائهم هذه الجائزة.
يتحدث البعض عن الخلاف بين الرئيس السادات والبابا شنودة, وللحق كانت علاقتهما في البداية تعبر عن صداقة وطيدة, فالسادات كان يحب الاستماع للبابا ومحاضراته, وكلماته التي يرتجلها بتوفيق وثقة ولغة عربية رصينة, وقد لاحظ الشعب هذا أثناء احتفال جمع الرئيس والبابا وشيخ الأزهر, اقترح فيه البابا شنودة عمل كتب عامة عن أهم القيم الدينية والأخلاقية في الأديان الثلاثة تدرس في المدارس للتلاميذ حتي يعرف الشباب بعد ذلك فلسفة الأديان وأنها لا تفرق بين البشر وأنها جاءت من أجل وحدة وخير البشر.
كان الرئيس السادات يستمع باهتمام وإعجاب للبابا شنودة, من ناحية أخري كان البابا شنودة محبا للرئيس وقال لي: العلاقة بين الرئيس السادات وبيني شهر عسل دائم.
وعندما أخرج الإخوان من السجون وأفرج عنهم قال لي البابا شنودة: أني أخاف علي الرئيس منهم.. وبالفعل كانت نهايته علي يدهم الغادرة.
إذن ما الذي حدث بين الرئيس السادات والبابا شنودة؟.. الأحداث الطائفية التي وقعت في الزاوية الحمرا, ومناطق متطرفة بالصعيد وجامعة أسيوط وهدم الكنائس وحرقها والتعرض للأقباط ولم يعاقب أحد من المجرمين ولم يطبق القانون!
والموقف غير الموفق من الرئيس وإعلانه أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة, هاج وشجع الإخوان وأعوانهم علي زيادة الأحداث والهجوم علي الأقباط.
كل هذا جعل البابا شنودة يدرس المشكلة موضوعيا ويأخذ موقفا يليق بمكانته كبابا للكنيسة المصرية القوية الوطنية.
في أغسطس عام 1987 حضرت حفل عيد ميلاد الكاتب الكبير أنيس منصور في فيلته بالمريوطية بالهرم مع أستاذي وعم زوجتي كمال الملاخ, وكان هناك بعض كتاب كبار شاركوا في الحفل, من خلال الحوارات والدردشة جاءت سيرة الخلاف بين البابا شنودة والرئيس السادات.
وهنا قال أنيس منصور ـ الذي كان علي صلة صداقة قوية بالرئيس السادات ـ: أقول لكم الحقيقة المرة, إن الكتاب والصحفيين الأقباط هم السبب الحقيقي في الخلاف الذي وقع بين الرئيس والبابا, ليس كلهم بالطبع ولكن نسبة كبيرة منهم, من المشهورين وكان يجب أن يكون دورهم عكس ذلك بالطبع!
من فضائل قداسة البابا شنودة الكرم الزائد, فالذي معه ليس ملكه, وربما يكون أول بابا للكنيسة يحمل نقودا في جيبه فهو معطاء جدا, أو قل: إنه الكرم يسير علي قدمين.
كان يطلب من الكهنة ورجال الدين أن يكرموا الشعب, ويقول: كلما تعطوا, يعطيكم ربنا. وكانت هناك حجرة في المقر البابوي صغيرة للنقود, وفي إحدي المرات طلب مني أن أدخل هذه الحجرة, ولم أكن أعرفها, لأحضر بعض أوراق البنكنوت, ودخلتها ورأيت كل أوراق البنكنوت من الفئات النقدية وكلها جديدة, كانت هذه الحجرة مخصصة للفقراء, تماما كالنقود التي كان يحملها في جيبه.
عطاء بلا حدود, لكن ليس لكل من هب ودب, بل للفقراء الذين يعرف حاجتهم, فقد كان حبيب الفقراء.
أذكر أنني كنت في إحدي السنوات في مكتبه خلال شهر ديسمبر لتسجيل كلمة التهنئة بعيد الميلاد المجيد التي كنت أذيعها في العيد غير إذاعة القداس ليلة العيد, وقضيت مع قداسته طوال اليوم, لأنه كان يفضل أن يكتب الكلمة أمامنا وأحيانا يتركنا لأداء مهمة ثم يعود إلينا مما يجعلنا نقضي في حضرة قداسته ساعات طوال.
في هذا اليوم طلب البابا من أبونا بسنتي (الأنبا بيسنتي الآن أسقف حلوان والمعصرة) وكان راهبا بسكرتارية قداسة البابا, أن يحضر شيئا لنا, فأحضر كيسا كبيرا من الورق بداخله, فسدق, وقال هذا لكي تسدوا جوعكم. فضحكت وكان معي ابني ناجي, فسألني لماذا تضحك؟ قلت يبدو أن قداستك عرفت أن ناجي, وهو الآن المصور الصحفي ناجي فرح, يحب الفستق, ثم أضفت.. أصل ناجي ده يا سيدنا مغلبني يحب الأشياء الغالية جدا, فهو يحب الفستق والجمبري.
فما كان من البابا إلا أن قال لأبينا بسنتي: اصعد إلي حجرتي واحضر الطعام الموجود علي السفرة, وفعلا جاء أبونا بلفة مغلفة بطريقة جميلة فأخذها البابا شنودة وقال لناجي: خد أنت بتحب الجمبري, وده مني لك.
ارتبكت من الموقف وقلت لسيدنا: هل معقول أن تترك عشاءك لابني؟ أجاب: يا أخ فايز أولا أنا راهب لا أهتم بالطعام, ثم أنك عندما قلت إن ناجي بيحب الجمبري لم أكن أعرف أن عشائي جمبري.. بالهنا والشفا..
كان كرم قداسة البابا غامرا جعلني أصمت ولا أتكلم.
البابا شنودة ودود للغاية وكان يحب أن أقدم له زملائي الصحفيين والإذاعيين ونجوم التليفزيون والمفكرين, كان يناقشهم في شتي أمور الحياة, وفي إحدي الجلسات اقترحت عليه أن يقيم خلال شهر رمضان مأدبة إفطار لمجموعة من الإعلاميين, وبخاصة أن معظمهم كانوا يتمنون أن ينهلوا من ثقافته.
وكان من مميزات قداسته تشجيع الأفكار الجديدة, فوافق فعلا علي إقامة المأدبة لمجموعة من الإعلاميين والكتاب.
وأقيمت المأدبة, وبعد سنوات قليلة أصبحت الدولة كلها بمن فيها رئيس مجلس الأمة ومجلس الوزراء, وشيخ الجامع الأزهر والوزراء ونماذج من الشعب يحتفلون كل عام بشهر رمضان في الكاتدرائية المرقسية, والطريف أن هذا التقليد انتقل إلي الكنيستين الإنجيلية والكاثوليكية.
وللحديث بقية..