الفعل “يصوم” في اللغة اليونانية، يصف ما يفعله الشخص عندما يذهب إلى صالة الألعاب الرياضية (الجيمم).. فالصوم في حد ذاته لا يجعلنا أكثر صلاحًا أو برًا، كما أنه ليس وسيلة نكسب بها رضا الله علينا، أو طريقة نحاول بها إقناعه أن يفعل لنا شيئًا.
في الواقع، الصوم هو تدريب جاد في “چيم الروح القدس”؛ حيث نضبط أنفسنا في تدريب روحي، فتتغير حياتنا. وقد عبّر القديس أغسطينوس عن هذا التدريب بقوله: “الصوم يطهر الروح، وينقي الفكر.. يُخضع الجسد للروح، ويجعل القلب منسحقًا ومتواضعًا.. يطفئ نار الشهوة، ويوقد في النفس نور العفة.”
والصوم الأربعيني المقدس (الصوم الكبير) يأخذنا إلى أبعد من مجرد ممارسة الانقطاع عن تناول الطعام لعدة ساعات في اليوم، أو الاكتفاء بأكل النباتي والامتناع عن الأطعمة الحيوانية.. فهذه الأسابيع تعود من عام لآخر لتكون بمثابة فترة من الجهاد الروحي للمؤمنين، يركزون خلالها على شخص المسيح المخلص، ويجاهدون لإخضاع أفكارهم وحياتهم لطاعته. وبينما نتخلى بالصوم عن تناول الطعام الذي يمد أجسادنا بما تحتاجه لنعيش فلا نموت، فهذا لابد أن يشير إلى قبولنا لموت المسيح لأجلنا.
واعتدنا كأسرة أن نسير في هذا الوقت من كل عام في الطريق مع المسيح، على صفحات الأناجيل، من بداية خدمته وحتى نصل معه إلى الجلجثة في يوم الجمعة العظيمة.. هناك نراه قد مات من أجلنا، بينما ننتظر بشوق نور السبت الذي يعلن قدوم أحد القيامة، فيتجدد رجاؤنا في هذه الحياة وإن ضاق بنا الحال، وتتعلق عيوننا بالحياة معه عبر النهر، عندما نمضي لنكون معه ومع كل الأحباء الذين سبقونا إلى هناك.
الصوم له تاريخ في الكتاب المقدس يرجع إلى بداية الخليقة، عندما أوصى الله آدم أن يمتنع (أو يصوم) عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، ومع أن هذا لا يمثل الصوم بمعناه الذي قصد الله أن يمارسه المؤمنون به عبر العصور، إلا أنه يجعلنا ندرك أن الصيام ليس من اختراع البشر، بل ممارسة أراد الله من البدء أن يعمل من خلالها ليأتي بأبنائه إلى نوع خاص من العلاقة معه؛ فيختبروا حضوره في حياتهم بشكل مباشر، وينالوا في حينه القوة التي يحتاجونها لمواجهة التحديات التي تتنوع باختلاف الزمن الذي يعيشون فيه، وبالمهام العظمى التي يكلفهم بها أيًا كان موقعهم في مجتمعاتهم.
كان موسى مشرعًا، وداود ملكًا، وإيليا نبيًا، ونحميا ياورًا للملك، وأستير ملكة، ودانيال وزيرًا ورائيًا.. وغيرهم كثيرون في العهد القديم نالوا بالصوم والصلاة قوة، فغلبوا التحديات بالرغم من استحالة ذلك بمقاييس البشر. وعندما جاء يسوع ابن الله إلى عالمنا صام أربعين يومًا في بداية خدمته، واضعًا لمؤمني العهد الجديد “استراتيجية”النصرة بالصوم والصلاة والكلمة المقدسة في مواجهة التجارب.
ومن بعده رسم الرسول بولس بإرشاد الروح القدس الأساليب العملية لتنفيذ هذه الاستراتيجية الإلهية.. فكتب إلى كنيسة كورنثوس يقول: «لأننا وإن كنا نسلك في الجسد، لسنا حسب الجسد نحارب (نجاهد)؛ إذ أسلحة محاربتنا (جهادنا) ليست جسدية، بل قادرة على هدم حصون.. هادمين ظنونًا وكل علو (عقبة) يرتفع ضد (يحجب) معرفة الله، ومستأسرين كل فكر (نخضعه) لطاعة المسيح» (٢كورنثوس ١٠: ٣- ٥).
لنسأل أنفسنا في كل يوم من الأيام القادمة للصوم المقدس: كيف نأسر كل فكر لطاعة المسيح؟ أولاً، لنتذكر أن الله يعرف كل أفكار قلوبنا، ولا شيء داخلنا يخفى عليه: «أنت عرفت جلوسي وقيامي.. فهمت فكري من بعيد» (مزمور ١٣٩: ٢). ولأن عقولنا هي ساحة الحرب الروحية في حياتنا، حيث توجد أفكار متأصلة فينا بسبب طبيعتنا الخاطئة، أو نتيجة لتأثير البيئة التي نعيش فيها، بينما تأتينا أفكار مختلفة يصوبها عدو الخير مباشرة إلى عقولنا كسهام ملتهبة؛ لنتذكر أننا كمؤمنين نستطيع أن نغلب بدم الحمل يسوع المسيح، والتمسك بشهادتنا له مهما كانت التكلفة.. «فاخضعوا لله. قاوموا إبليس فيهرب منكم.» (يعقوب ٤: ٧).
الصوم الذي يمارَس مع صلاة مستمرة تخرج من قلب يشتاق لأن يشبع بشخص الله، وبفكر يتجدد يوميًا باللقاء معه في الكلمة المقدسة، يطلق يد الرب لتعمل فينا بالروح القدس؛ فنستطيع أن نقاوم بثبات كل فكر لا يرضيه. فترة الصوم المقدس هي فرصتنا لندرب حواسنا على الاستقامة الروحية، فننتبه لكل ما تراه أعيننا، وما تسمعه آذاننا؛ حتى لا تكون العين أو الأذن، أو كلاهما، آلة للمتعة التي ترتفع كغيمة فوق رأسك، فتعيق تواصلك مع الرب الحي، بل وقد تهدم حياتك، وتهدد زواجك، وتفقدك فرصة لتقديم نموذج يحتذي به أبناؤك.. «تناهى الليل واقترب النهار؛ فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور. لنسلك كما يليق السلوك في النهار: لا عربدة، ولا سُكْر، ولا فجور ولا فحش (إباحية)، ولا خصام ولا حسد. بل تسلحوا بالرب يسوع المسيح، ولا تنشغلوا بالجسد لإشباع شهواته» (رومية ١٣: ١٢- ١٤ الترجمة العربية المشتركة).
هكذا يريدنا الله أن نصوم.. فكيف تصوم أنت؟
سامي يعقوب
www.FocusOnTheFamily.me