يحثنا القديس بولس قائلا:المحبة لاتطلب ما لنفسها ولاتظن السوء(1كورنثوس13:5).يحكي أن أحد الرسامين البارزين كان يقوم بإعداد لوحة جدارية كبيرة الحجم,أعد السقالة التي سيقف عليها ثم بدأ في دهان أرضية اللوحة,وأثناء انغماسه في العمل,أتي لزيارته أحد الأصدقاء المقربين وظل واقفا عند الباب صامتا ولم يفتح فاه لأنه وجده مشغولا في إعداد اللوحة مركزا علي طلائها بدرجات مختلفة من اللون الرمادي الداكن,وعندما أراد الرسام أن يري الأرضية التي يرسمها من زاوية أخري,اضطر إلي النزول من أعلي السقالة ثم رجع للخلف وعيناه لم تفارق اللوحة لحظة واحدة,حتي أنه عندما اقترب من صديقه لم يشعر بوجوده لأنه كان محدقا بالنظر إلي لوحته وبعد التأمل فيها صرخ بصوت عال وبتلقائية:يا لها من لوحة رائعة وبديعة,مما اضطر صديقه الذي كان يسمعه يتعجب من هذا الكلام,فقطع صمته قائلا:أين هذه اللوحة الرائعة؟كل ما أراه ماهو ألا ألوان داكنة قاتمة بلا معني.فكان رد الفنان مبتسما:معذرة ياصديقي,عندما تنظر أنت إلي اللوحة,فلن تري سوي ما هو مرسوم عليها,أما أنا فعندما أنظر إليها,فأري ماسوف يرسم عليها,فهناك فرق شاسع بين الأمرين.
نستطيع أن نطبق هذا في علاقتنا بالآخرين,أي لا نتسرع في الحكم عليهم من وجهة نظرنا أو مانراه في الخارج من تصرفات أو معاملات,لأن الكثيرين يحكمون علي الغير بما هو ظاهر أمامهم فقط,ما هو علي السطح وتحت النظر,كما لو كنا نشاهد الأشياء المعروضة في المحال من خلف الزجاج(الفاترينة),لكن الشخص الحكيم والواعي يدخل إلي العمق ليكتشف دروبا أخري وأشياء لايمكن أن تراها العين فقط,فهناك البصيرة التي تساعدنا علي الفحص والتأمل والتمحيص فيما هو أفضل وأنبل,لأن كل فرد يمتلك ماهو جميل ومميز في أعماقه,ومن المحتمل ألا يستطيع أن يعبر عنه أو تخونه الكلمات والتصرفات والمواقف التي تواجهه.
من منا استطاع أن يؤكد للآخر بأنه واثق بوجود أشياء بديعة داخله,أو أنه يستطيع أن يتغير للأفضل في القريب العاجل,بمعني أنه يري اللوحة البديعة كما ستصبح عليها مع آخر فرشاه,وليس الآن كما يظهر اللون الرمادي الداكن أو الكئيب؟من منا يؤكد للغير بأن الأجمل والأفضل لايظهر علي السطح,وكل ما يراه الناس باهتا وقاتما الآن,سيتحول إلي لوحة مضيئة تعبر عن جمال خلاب؟إذا …كل هذا يساعدنا علي الثقة في الآخرين وإمكانياتهم وأن نربح أصدقاء جددا يوما بعد يوم,لأننا نتوقع الأفضل الموجود والدفين داخل كل شخص نتقابل معه.هذه التجربة تعطينا الفرصة الذهبية بألا نظن السوء في الغير أو نحكم عليه مما هو ظاهر أمام أعيننا,ولكن أن نتخيل اللوحة الفنية التي سنشاهدها عندما نتقرب منه,كما أننا سنري النور الذي ينبثق منه بعد تشجيعنا له وثقتنا فيه.
كما أن هذه التجربة ستجعلنا ألا نحتقر أي إنسان مهما كان,لأن كل شخص حتي الأكثر شرا في العالم يحمل بين طيات نفسه شرارة إلهية تعطيه الفرصة لأن يتوهج في أي لحظة بالخير والحب والجمال.
من منا يستطيع أن يعرف أفكار الغير أو اكتشافها؟من ذا الذي يعرف الدافع الذي جعل الشخص يتصرف بهذه الطريقة؟فالإنسان الذي يحب حقا,يقبل الناس علي علتهم والأخذ بيدهم للنهوض بهم والعمل علي تهذيبهم حتي يصلوا إلي المستوي اللائق في الصداقة والعمل.
من منا استطاع أن يبتسم وينظر بعطف إلي من عاداه أو كان يتعامل معه باستهزاء وبشكل غير لائق؟من منا يقدر أن يحسن إلي من كان يحقد عليه أو يبدي له جفافا في المعاملة؟فالمحبة الصادقة لاتبحث مطلقا عن سيئات القريب وضعفاته, بل تحاول سترها,كما أنها تتغاضي عن عيوبه ولو كانت ظاهرة للعيان وتعمل علي اكتشاف ما من شأنه أن يصيره أفضل وأحسن.وبناء علي ذلك سيجد قلب الإنسان السعادة والسلام والراحة عندما يلتهب فيه الحب نحو الآخرين,ويصير العالم أفضل بتحطيم المتاريس والقيود التي نضعها في علاقتنا مع الآخرين.ونختم بالقول المأثور:إذا مر بي يوم لم أمسك يدا لنهوضها,ولم اكتسب خبرة,فما ذاك من عمري.