حوت يونان, يمثل التجربة الحافظة, غير المؤذية.
إنه يمثل التأديب, وليس الموت, كما قال داود النبي: تأديبا أدبني الرب, وإلي الموت لم يسلمني (مز117).
فيه امتدت يد الرب إلي يونان. يده لا عصاه..
وعاش يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام ولم يؤذه, بل حفظه الحوت من كل تيارات البحر ومن كل لججه. وأسلمه أخيرا إلي الرب, سالما, وقد أخذ درسا روحيا.
الأيام الثلاثة التي قضاها يونان في بطن الحوت, تعلمنا أن كل تجربة لها مدي زمني, كتجربة أيوب..
لم تكن مدة قصيرة.. كل ساعة فيها, بل كل دقيقة من الـ4320 دقيقة, كانت دهرا تقاس بألمها وليس بطولها..
إنه جو رهيب مفزع, عاش فيه النبي المخالف.. وصبر الرب عليه, ولم يخلصه إلا في ملء الزمان, مثل أيوب..
في بداية التجربة احتج يونان وشكا, قال للرب: طرحتني.. تياراتك ولججك فدل علي أنه لم يصل إلي الانسحاق بعد ولم يعرف خطأه. فتركه في التجربة ليستفيد.
نفس الوضع حدث مع أيوب: شكا واحتج, وقال الرب: فهمني لماذا تخاصمني؟ أحسن عندك أن تظلم. تستذنبني لكي تتبرر أنت!! فصبر عليه الرب, لأنه لم يكن قد انسحق قلبه بعد.. ولما وصل إلي الانسحاق (أي42:6), رفع الرب عنه التجربة..
هكذا أنت في كل تجربة تمر عليك, لا تنفعك الشكوي والاحتجاج, والثورة علي أحكام الله, والشعور بأنك مظلوم, وإنما انسحق واشعر بخطئك, واستفد من التجربة, حينئذ تنتهي التجربة, لأنها تكون قد أدت رسالتها, فلا داعي لبقائها.
هكذا يونان: وقع في بحر لا يقدر عليه, وفي جوف حوت لا يقدر عليه, ولم تنفعه الشكوي ولا الاحتجاج, كان المنفذ الوحيد هو الصلاة, وطلب رحمة الله.
الله أمر الحوت بابتلاع يونان, والله أمره بقذفه.
إذن الأمر يحل مع الله أولا وأخيرا, بإرضائه تنتهي التجربة.
خلاصك من عند الرب هو صار لي خلاصا.. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم..
وهكذا سلم الحوت وديعته, أنزلها سالمة إلي الشاطئ.
لم يؤذ الحوت يونان, بل أعطاه صلاة وانسحاقا, وطاعة.
لقد كان يونان محتاجا إلي لطمة قوية من الله لكي يفيق, هذا الذي هرب من الله, ونام في السفينة نوما عميقا دون أن يعبأ.. فكان أن أعد الله له حوتا عظيما ليبتلعه, وربما يظن البعض أن ابتلاع الحوت ليونان, كان إجراء شديدا من الله لا يتفق مع حنوه!!
ولكن حنو الله كله حكمة, إنه حنو روحي يهدف إلي خلاص النفس, وليس مجرد عطف وتدليل..
لقد علمنا الرب أن نحمل الصليب في طريق الخلاص, وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن نرث ملكوت السموات, كما أرشدنا إلي الباب الضيق وإلي الطريق الكرب, لأنه يحبنا ويريد خلاصنا, إنه يريد أن الجميع يخلصون, ولكن كيف؟
إن كانوا يخلصون بالحب والنعم والبركات, فلا مانع. وإن كانوا يخلصون بالألم والصليب, فلا مانع. المهم أن يخلصوا.
قد لا يفيق إنسان إلي خلاص نفسه إلا بكلمة شديدة, أو مرض أو تجربة أو حادث معين, لا مانع لدي محبة الله من كل هذا, المهم أن يخلص, إن الألم نافع, ولا يتعارض إطلاقا مع محبة الله.
ونحن لا نشك في محبة الله. إن قادتنا في طريق الألم, إنما يجب أن نسلم ذواتنا لمشيئته, ونثق بها.
وهكذا نقول: المر الذي يختاره الرب لي, خير من الشهد الذي أختاره لنفسي. كل أعمال الله خير, قد لا أدري هذا الخير, ولكنني أؤمن بوجوده, أنت يارب المحبة ذاتها, أنت ينبوع الحنان, وحنانك لا يتغير سواء أدخلت يونان في بطن الحوت, أو أخرجته منه..
إن الشدائد أفادت يونان, كما أفادت أهل نينوي أيضا..
المناداة بالهلاك قادت نينوي إلي الصلاة والصوم والتوبة والانسحاق وإلي المغفرة تبعا لذلك, وابتلاع الحوت أفاد يونان, فصلي في جوف الحوت, واصطلح مع الله, وخرج طائعا.
كذلك الأمواج التي كادت تقلب السفينة أفادت ركابها روحيا:
فصاروا كل واحد إلي إلهه, ونذروا نذورا, وقبلوا الله وآمنوا, وذبحوا ذبائح للرب وخلصت نفوسهم.
كثيرون يقولون للرب علي جبل التجلي جيد أن نكون ههنا, فيجيبهم الرب لقد أخطأتم الطريق, ويقودهم بمحبته إلي بستان جثسيماني.
هناك في جثسيماني يدعوهم أن يسهروا معه, هناك ينبغي أن يتألموا معه, لكي يتمجدوا معه أيضا.إن حياة الألم نافعة للإنسان, تعلمه الانسحاق والاتضاع والصلاة, وتصالح قسوة القلب فيرق, وفي الألم نبصر وجه الله.
لتكن يارب مشيئتك مشيئة كلها حب, وكلها حكمة, ليس لنا أن نفهمها إنما علينا أن ننفذها, وأن نقبلها في رضي وفي ثقة.
إن أعددت حوتا ليبتلع يونان, فهذا حب كبير, لكي يتعلم الطاعة, ولكي يخدم. وإن أمرت الشمس أن تضربه علي رأسه حتي يذبل ويشتهي الموت, فهذا حب كبير أيضا, إذ كان وسيلة تفاهم بها معك, وعرف واقتنع.
نحن يارب لسنا أحن منك ولسنا أعرف منك بالنفوس..
أنت قد خلقت النفوس, وتعرف طبيعتها, وتعرف كيف تخلص..
يوحنا تجذبه إليك باتكائه علي صدرك, ومريم بجلوسها عند قدميك, والمرأة الخاطئة تكسبها بقولك لها: اذهبي بسلام, وأنا أيضا لا أدينك.. ويونان تخلصه بالحوت, وبضربة من ريح شرقية حارة, وأهل السفينة تخلصهم بالأمواج والزوابع, وأهل نينوي بمناداة الهلاك..
نحن لا نفحص أحكامك, ولكننا نتأملها, فنري عجائب من حكمتك.
كنت تحب داود, حين ثار عليه أبشالوم, وحين شتمه شمعي بن جيرا, في عينيه دموع كنت تريدها أن تخرج, وفي قلبه مزمور كنت تريده أن يرتله..
إنك تحب وأنت ممسك بالسوط, تماما كما وأنت تحتضن الأطفال..
أنت تحب حين تعطي, تماما كما تحب وأنت تأخذ. ليس عندك تغيير ولا ظل دوران مبارك أنت في كل أعمالك. الرب أعطي, الرب أخذ, ليكن اسم الرب مباركا في كل حين.
قال الله ليونان: اذهب إلي نينوي, وناد عليها, لأنه قد صعد شرهم أمامي.. ومع ذلك فأنا لست يائسا منهم.
أنا أري توبتهم وخلاصهم, علي الرغم من شرهم الصاعد أمامي. لست يائسا منهم, ولا قلبي قد تغير من جهتهم.
هكذا أيضا لم ييأس الله من شاول الطرسوسي, الذي كان يضطهد الكنيسة, ويجر رجالا ونساء إلي السجن.. علي الرغم من هذه القسوة الخارجية, كان الله يري في شاول الإناء المختار الذي سيحمل رسالته إلي الأمم, والذي سيتعب أكثر من جميع الرسل, وسيصعد إلي السماء الثالثة, ويري أشياء لا ينطق بها..
في نينوي الخاطئة سأعطيك يا يونان أمثولة صالحة, وخبرة روحية عجيبة في تغيير النفوس, لن تجدها في كل معاهد الرعاية!
تعال معي, تدرب علي الخدمة العملية, وستري كيف ينسحق الناس بالآلام, وحينئذ سوف تدرك بركة الألم, وتختبر حكمة الإرسالية التي كلفتك بها, وتطيع بعد ذلك بلا فحص..
إن الملائكة في السماء يطيعون بكل سرعة وبلا جدال..
مهما كان نوع الإرسالية نعمة أم عقوبة: ملاك يرسله الله ليرفع السيف علي أورشليم, آخر بسيف من نار يمنع الطريق إلي شجرة الحياة, ثالث يقتل جميع الأبكار, رابع يسد أفواه الأسود.. الكل يطيع, في ثقة, وبلا تذمر, وبلا مناقشة..
ما أجمل الدروس التي نتعلمها من قصة يونان ونينوي.. حسنا إن الكنيسة جعلتها مقدمة للصوم الكبير.