أتابع بقدر كبير من الاندهاش الغاضب انتشار الإرشادات الطبية, انتشارا مهولا علي قنوات التليفزيون. ويجد المرء في كلمات الأطباء الذين يتحدثون في جميع المشاكل الصحية علاجا لكافة الأمراض, بما فيها المستعصي منها.. وفوق كل هذا تحديد الدواء الناجع. متاهة لا سبيل إلي الخروج منها.. والغريب أن هؤلاء الذين تقدمهم شاشات التليفزيون علي أنهم متخصصون, لا يعرف أحد هل يخضعون لنقابة الأطباء بصدد العلاج الشفوي الذي أعتقد أنه لا نظير له في العالم, أم أن ظهورهم في وسائل الإعلام يكون فقط باتفاق مع القناة التي يبثون منها.. والمؤكد أن الإحجام عن زيارة طبيب متخصص أو التكاسل عن مراجعته ينعكس سلبا علي هذه المهنة النبيلة, ولكن الوضع يستفحل يوما بعد يوم دونما أي تدخل سواء بالسلب أو حتي بالإيجاب لتبصير جمهور المشاهدين أو المستمعين بأبعاد ما يصدر عن هؤلاء.
والمثير للقلق بواسطة وسائل الإعلام أيضا انتشار أشخاص ينصحون بوصفات سحرية مع تأكيدهم أن وصفاتهم قد تمت تجربتها بنجاح مبهر, وتحقق بها الشفاء دون الانتقال من علي المقعد أو الأريكة التي يتكئ عليها المشاهد!!.. بمعني آخر يروج هؤلاء للاستسهال, وهو السلوك الذي تفشي في السنوات الأخيرة في مصر وانعكست آثاره المدمرة علي العديد من أوجه الحياة.
ففي الوقت الذي نتابع فيه الإنجازات العلمية المبهرة في الدول الغربية, والتي تحقق لهذه الدول مكانة محترمة ومرموقة, ناهيك عما تحققه من مكاسب اقتصادية كبيرة, نكتفي نحن بتطبيق ما يعلنه لنا مئات المرات يوميا, ولدرجة الملل, من يقدمون أنفسهم كخبراء في الطب وهم علي يقين أنهم بمنأي عن الحساب أو حتي السؤال.
إن صحة المواطن أمر في غاية الأهمية, فمازلنا نتذكر الشعار القائل: العقل السليم في الجسم السليم ومن هنا يفرض التساؤل نفسه هل تقوم الجهات المعنية والمسئولة بواجبها لحماية المواطن المصري البسيط الذي ينساق وراء الإعلانات المضللة التي تدفعه دفعا إلي امتلاك الدواء أو الوصفة التي تطلق, بوهم شفائه من مرض مزمن, أو توفير مشقة الانتقال إلي طبيب وكذلك توفير نفقات الفحص الباهظة؟
وما يغيظ فعلا هو أن يصدق البعض ما يقوله أطباء الشاشات التليفزيونية غيبا فليس كل مريض مثل الآخر, وليست كل حالة متطابقة مع أخري, فأحيانا يكون المرض متقدما عند شخص بينما يكون في بدايته عند آخر وشتان بين مواجهته في كل من الحالتين.. ومن حق المشاهد أن يسأل هؤلاء: ألا تتشابه أعراض بعض الأمراض بحيث يتطلب الأمر إجراء تحليلات وأشعات وفحوصات علي المرضي لتحديد الجرعات المناسبة وفق الحالة والحاجة؟
لاشك أن انتشار ظاهرة العلاج الشفوي الذي يتقاضي مطلقه أجرا من القناة, قد تكون أحيانا من أخطر ما يمكن والمؤسف كما أشرت, بلا حساب أو مساءلة.. ممكن أن يكون مقبولا إعطاء إرشادات بصدد الغذاء بأنواعه والتبصير بأضرار بعض المأكولات سواء الجاهزة التي لا يعرف أحد مدي مطابقتها للمواصفات الصحية, أو صعبة الهضم لمن يعانون من مشاكل في الجهاز الهضمي وكذلك النصائح باتباع نظام غذائي معين درءا لزيادة الوزن التي تتسبب بدورها في مشاكل صحية خطيرة أحيانا.. وكذلك إعطاء نصائح في كيفية الطهو بتجنب المواد الدسمة والدهنية, ولكن تشخيص الداء عبر شاشات التليفزيون.
والأدهي تحديد الدواء لمريض بعيد عن المتحدث بمئات الكيلومترات أحيانا, ظاهرة تنفرد بها -في اعتقادي- وسائل إعلامنا.. ليتنا نشاهد أناسا مهتمين بالنظافة والتنبيه إلي خطورة القمامة وتراكمها, حيث تتكاثر فيها الميكروبات التي تشكل كارثة بيئية وصحية علي السواء, ولاشك أن الوطن يحتاج إلي أبناء أصحاء قادرين علي تحمل أعباء البناء وإعلاء شأنه بالعلم والعمل وليس بالدجل أو علي الأقل بالتشويش والنصائح القاتلة في أجواء فوضي عارمة.
فريدة الشوباشي
الكاتبة الصحفية
[email protected]