حدثتكم في المقال الماضي عن كثير من فضائل أبينا إبراهيم.
وأحدثكم اليوم عن بعض ضعفاته, هذا القديس العظيم الذي لا نستحق تراب قدميه.. ولكن هكذا قدم لنا الكتاب حياة القديسين.
لم يقدمهم لنا كبشر معصومين من الخطأ, وإنما كبشر مثلنا غير أن النعمة عملت في استعدادهم الشخصي فرفعتهم إلي مستوي عال.
وكمثال فإن إيليا النبي العظيم الذي بصلاته أغلق السماء وفتحها, قال عنه الكتاب: إيليا كان إنسانا تحت الآلام مثلنا (يع5:17, 18). وبطرس الرسول مثلا -مع كونه خاف وأنكر- لا يمنع ذلك من أنه كان قديسا عظيما, ولكن له بعض ضعفات. وداود النبي أيضا كانت له ضعفاته وخطاياه, ومع ذلك قيل إنه: كان قلبه كاملا مع الرب إلهه (1مل11:4)..
وأبونا إبراهيم أبو الآباء, حدثت له تجربة أظهرت بعض ضعفاته:
يقول الكتاب: وحدث جوع في الأرض, فانحدر أبرآم إلي مصر ليتغرب هناك, لأن الجوع في الأرض كان شديدا جدا. وحدث لما قرب أن يدخل إلي مصر, أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر. فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك, قولي إنك أختي, ليكون لي خير بسببك, وتحيا نفسي من أجلك (تك12:10-13).
+ أول خطأ هنا أن أبرآم خاف من الجوع, ولم يؤمن أن الله يمكن أن يرعاه في الأرض التي أراه إياها (تك12:1). وثاني خطأ أنه اعتمد علي الذراع البشري, ولجأ إلي مصر لتحميه من الجوع..
وكانت مصر مشهورة جدا بخصوبة أرضها وبمحصولها الوفير من القمح, فكان يلجأ إليها سكان البلاد المجاورة في أيام المجاعات, كما حدث فيما بعد أن لجأ إليها أبناء يعقوب حفيد إبراهيم في وقت المجاعة أيام يوسف الصديق (تك42:1-3). وقيل أيضا -بعد قرون طويلة- إن مصر كانت مخزن غلال للإمبراطورية الرومانية.
ولذلك فإن الله -في أيام إشعياء النبي- قد منع النزول إلي مصر طلبا للمعونة.. فلو أن أبانا إبراهيم قد انتظر الرب وقت المجاعة, لكان الله قد عاله كما عال إيليا النبي (1مل17:4-9). وكما عال أيضا الشعب في برية سيناء أربعين عاما بالمن والسلوي.. لكنه خاف وتعجل الذهاب إلي مصر وقت المجاعة.
+ ولم يذهب إلي هناك بأمر من الرب أو برضي عنه.
فارق الأرض التي أمره الرب أن يذهب إليها, وانحدر ليتغرب.. وكان في نزوله علي عكس حفيده يعقوب الذي قال له الرب: أنا الله إله أبيك. لا تخف من النزول إلي مصر, لأني أجعلك أمة عظيمة هناك. أنا انزل معك إلي مصر, وأنا أصعدك أيضا (تك46:3, 4).
ولأن أبرآم نزل علي عكس مشيئة الله, أصابته تجربة أخري, والعجيب أنه كان يعرف بأمر هذه التجربة.
ولذلك قال لامرأته ساراي: يكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختي…
مادمت يا أبانا أبرآم تعرف أنه ستصيبك تجربة بسبب جمال امرأتك, فلماذا ذهبت إلي هناك بقدميك وأنت تعلم؟! ولماذا دخلت إلي مصر, وأنت خائف مما سوف يحدث؟!
+ الخوف من المجاعة جعله يلجأ إلي الذراع البشري لإعانته. والخوف من الموت, جعله ينكر أن سارة امرأته ويقول إنها أختي.
حيلة بشرية بعيدة عن الصدق, والظاهر أنه اعتادها فكررها مرة أخري حينما ذهب إلي جرار, وعرض امرأته أن يأخذها أبيمالك الملك علي اعتبار أنها أخت أبرآم وليست زوجته.
والدليل علي أنها أصبحت عادة له, قوله لأبيمالك: حدث لما أتاهني الرب من بيت أبي, أني قلت لها: هذا معروفك الذي تصنعين إلي: في كل مكان نأتي إليه, قولي عني: هو أخي (تك20:13).
وقد حاول أن يغطي علي هذه الحيلة البشرية, حتي لا يقال عنه إنه كذب, فقال في قصته مع أبيمالك: وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي, غير أنها ليست ابنة أمي, فصارت لي زوجة (تك20:12).
كان مثل هذا الزواج مسموحا به في العصور الأولي للبشرية, ولكنه ألغي في شريعة موسي, كما أمر الرب في سفر اللاويين (لا18:9).
+ في قوله: هي أختي, وعدم قوله: وهي امرأتي أيضا استخدم أسلوب أنصاف الحقائق الذي يفهم علي أنه كذب.
وهنا كان يقصد فعلا أنهم لا يفهمون أنها زوجته..
ولمقاومة أنصاف الحقائق التي تعتبر كذبا, حسنا أنه في ساحة القضاء يقسم الشاهد بأن يقول الحق كل الحق, ولا شئ غير الحق فليس المهم فقط حرفية الألفاظ التي يقولها الشخص مدعيا أنها صدق بل الأهم هو ما يفهمه السامع من قول القائل.
والذي فهمه فرعون (تك12), والذي فهمه أبيمالك (تك20) أن ساراي ليست امرأة أبرآم, لذلك أخذها كل منهما لتكون زوجة له.
+ وبهذا الأسلوب سبب أبرآم عثرة لفرعون وعثرة لأبيمالك. واستحق أن يوبخه كل منهما علي تصرفه.
فدعا فرعون أبرآم وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟! لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ ولماذا قلت هي أختي, حتي أخذتها لي لتكون زوجتي؟ (تك12:18, 19). وأيضا التوبيخ نفسه سمعه من أبيمالك:
دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: ماذا فعلت بنا, وبماذا أخطأت إليك, حتي جلبت علي وعلي مملكتي خطية عظيمة؟! أعمالا لا تعمل عملت بي! (تك20:9).
حقا إنه لأمر مخجل, أن رجلا علمانيا, وأمميا ليس من شعب الله يوبخ نبي الله العظيم, الذي قال له الرب: وتكون بركة (تك12:2).
+ أبونا إبراهيم لم يسبب فقط عثرة لفرعون ولأبيمالك, إنما أيضا عرضهما لغضب الله.. علي غير ذنب منهما.
وهكذا في حالة فرعون قرأنا أنه كتب: فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرآم (تك12:17).
وفي قصة أبيمالك قيل: فجاء الله إلي أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها, فإنها متزوجة ببعل وقال أبيمالك: يا سيد أأمة بارة تقتل؟! ألم يقل هو لي إنها أختي, وهي أيضا نفسها قالت هو أخي. بسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا. فقال له الله في الحلم: أنا أيضا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا. وأنا أيضا أمسكتك عن أن تخطئ إلي. لذلك لم أدعك تمسها, فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبي, فيصلي لأجلك فتحيا, وإن كنت لست تردها, فأعلم أنك تموت أنت وكل الذين لك (تك20:3-7).
+ وأبونا إبراهيم لم يسبب فقط عثرة وغضبا من الله لفرعون ولأبيمالك, إنما أيضا سبب عثرة لزوجته وتجربة.
في قوله لها: قولي إنك أختي, وفي طاعتها له وقولها: هو أخي. وفي تعرضها مرة أن يأخذها إلي بيت فرعون (تك12:15). ومرة أخري أرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة (تك20:2).
مسكينة هذه المرأة القديسة, فيما تعرضت له من تجارب وعثرات سبب خوف زوجها من القتل, وبسبب طاعتها له. لاشك أنها كانت في ألم وحرج شديدين, وفي خوف مما كان ممكنا أن يحدث!!
والعجيب أن أبرآم في تضحيته بامرأته, التمس لنفسه عذرا فقال إني قلت ليس في هاذ الموضع خوف الله, فيقتلونني لأجل امرأتي (تك20:11).
يا أبانا أبرآم, ومادت تعلم أن ذلك الموضع ليس فيه خوف الله, فلماذا ذهبت إليه؟! ولماذا تعرض نفسك للحيل البشرية وللكذب؟ وكيف تضحي بامرأتك لكي يستبقوك أنت؟! وماذا كان شعورك وهم يأخذون امرأتك أمامك, لتكون زوجة لرجل آخر؟!
+ حقا إن خطية تقود إلي خطية أخري, بل إلي سلسلة من الخطايا.
الذهاب إلي مكان ليس فيه خوف الله, يؤدي إلي الخوف من الموت, وهذا الخوف يؤدي إلي التحايل البشري. والتحايل يؤدي إلي الكذب, والكذب يؤدي إلي العثرة, والعثرة تؤدي إلي التضحية بالزوجة, من أجل حرصك علي استبقائك..
+ أبرآم تخلي عن زوجته لأجل نفسه, ولكن الله لم يتخل عنها.
تولي قيادة الموقف, وتدخل لحماية سارة, هذه التي سوف يأتي من نسلها المخلص والفادي, حماها من ملكين اشتهيا هذه العجوز الجميلة, وأخذاها لتكون زوجة, في غير اكتفاء بما عندهما من زوجات! فضرب فرعون, وهدد أبيمالك بالموت, وأعيدت سارة سالمة إلي بيت زوجها الخائف.
+ عجيب قول أبينا إبراهيم لزوجته سارة: قولي إنك أختي, ليكون لي خير بسببك, وتحيا نفسي من أجلك.
أية حياة هذه يا أبي, وأي خير يكون لك, حينما تؤخذ زوجتك منك إلي بيت رجل آخر؟! وهل تكون لك راحة في ضميرك؟! كان خيرا لك لو اضطررت إلي الذهاب إلي بلد آخر ليس فيه خوف الله, إنك تذهب وحدك دون زوجتك, مادمت غير قادر علي حمايتها, ومادمت خائفا علي نفسك!!
+ إنها جرأة مني أنني كلمتك بهذه الصراحة, بينما الله في حنوه, العارف بضعف طبيعتنا, لم يتوجه إليك بأي لوم.
بل علي العكس قال لأبيمالك عنك: رد امرأة الرجل, فإنه نبي, فيصلي لأجلك فتحيا (تك20:7).
حقا, كما قال داود النبي: أقع في يد الله, ولا أقع في يد إنسان, لأن مراحم الله كثيرة (2صم24:14).
وفي حنوه أيضا, قام الرب -عوضا عنك- بحماية سارة مادمت لم تستطع أن تحميها, بل فضلت ذاتك عليها.
سامحني يا أبي القديس, فإن لك فضائل كثيرة تغطي علي هذه الضعفات التي كشفها ذهابك إلي مصر, وإلي أرض جرار..
+ نقطة أخري أقولها في تجربة ساراي في مصر, وهي قول الكتاب:
فأخذت المرأة إلي بيت فرعون, فصنع إلي أبرآم خيرا بسببها. وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال (تك12:15, 16).
عجيب أن أبرآم قبل كل هذا (الخير) من فرعون!! أكان هذا يغني عن سارة زوجته؟! أما كان ثمنا لسارة؟! وهل في كل يوم كان أبرآم ينظر إلي هذا الغني, كان يذكر سارة فيتألم؟! أم كان أبرآم يتضرع في صلواته أن ينجيه الرب من هذه التجربة. يقينا أنه كان يصلي, وإن كان الكتاب لم يذكر.
علي أن أبرآم في نضوجه الروحي, رفض مثل هذا الغني من ملك سادوم بعد إنقاذه سبي سادوم, فقال له ملكها: أعطني النفوس وأما الأملاك فخذها لنفسك, فقال أبرآم لملك سادوم: رفعت يدي إلي الرب الإله العلي مالك السماء والأرض. لا آخذ (منك) لا خيطا ولا شراك نعل, ولا من كل ما هو لك, فلا تقول: أنا أغنيت أبرآم (تك14:21-23).
+ ملاحظة أخري أحب أن أقولها فيما تعرضت له سارة من تجربة:
وهي عمل الحاشية المحيطة بالملوك وتظن أنها مخلصة!
قيل في ذلك: إن المصريين رأوا المرأة (سارة) أنها حسنة جدا (أي جميلة جدا) ورآها رؤساء فرعون (أي الرؤساء العاملين عند فرعون), ومدحوها لدي فرعون. فأخذت المرأة إلي بيت فرعون (تك12:14, 15).. عجبا علي هؤلاء الرجال الذين يظنون إرضاء فرعون بأن يجلبوا له امرأة جميلة لتضم إلي بيته كزوجة, مع أنها امرأة غريبة..
وهنا أذكر أن سارة الجميلة كانت عجوزا.
كان الفرق في العمر بينها وبين زوجها أبرآم عشر سنوات, ففي حبلها بإسحاق, كان عمر أبرآم مائة سنة وعمرها تسعين (تك17:17).
وحينما خرج أبرآم من أرضه وبيت أبيه كان عمره 75 سنة (تك12:4). إذن كان عمرها وقتذاك 65 سنة, وغالبا حينما ذهبت إلي مصر كان عمرها حوالي السبعين. أما حين ذهبت إلي جرار في (تك20:2) بعد وعد الله لها بالنسل في (تك17:17) وفي (تك18:11-13) كانت في حوالي التسعين من عمرها ولذلك تعجبت من وعد الله لها وقالت: أبالحقيقة ألد وأنا قد شخت (تك18:13), ومع ذلك كانت جميلة جدا, فأخذها أبيمالك لتكون له زوجة.
تجربة أخري تعرض لها أبونا إبراهيم, وهي مشكلته مع لوط.