** بعد 25 عاما علي حسم النزاع علي موقع المغطس..
* إدراج الموقع ضمن مواقع التراث العالمية
* 17 عاما علي افتتاح الموقع لزيارة الجماهير
* طقوس ليلة الغطاس في عصور مختلفة
* تطور المعمودية في ثلاث مراحل تاريخية
* منع الأقباط من الاحتفال بالغطاس في القرن الرابع
* الغطاس كان عيدا قوميا يشترك فيه المسلمون مع المسيحيين
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة اليونيسكو بيت عنيا, المكان الذي تعمد فيه الرب يسوع, الواقع علي حدود الضفة الشرقية من نهر الأردن في نقطة تعرف باسم المغطس ضمن مواقع التراث العالمية, وذلك بعد أن كشف فريق من الباحثين الأثريين من خلال التنقيب التراثي في موقع المغطس عن وجود حمامات المعمودية ومصليات وكهوف بسيطة كان يعيش فيها الرهبان الذين سكنوا البراري.
وكان الموقع قد شهد كثيرا من النزاعات في السنوات القليلة الماضية, وتم توقيع معاهدة سلام في بداية التسعينيات من القرن الماضي وتحديدا عام 1994, وافتتح الموقع رسميا لزيارة الجماهير في عام 2002, بعد أن اعترفت جميع الطوائف المسيحية بمصداقية المكان وقدسيته, وزاره كثيرا من باباوات الكنيسة القبطية من كل الطوائف المسيحية.
وكلما نتأمل في أحداث معمودية السيد المسيح, التي تحتفل بها الكنيسة القبطية, وما أحاط بهذا الحدث الجليل من أسرار عميقة, نضع أمامنا في غمار تلك التأملات البحث في معمودية يوحنا المعمدان التي جاءت رمزا لمعمودية المسيحية وطقوسها التى ينُمارسها حتى اليوم .
العلامة ترتليان يتساءل هل المعمودية التي قدمها يوحنا المعمدان في عصره, كانت من السماء أم من عند الناس؟ يجيب العلامة ترتليان أنه قبل معمودية يوحنا عرف الشعب اليهودي معمودية الدخلاء, وهي تخص وثني اليهودية الذين اعتمدوا طبقا للطقس اليهودي, معلنين من خلالها تكريس حياتهم للوصايا والناموس طبقا لما جاء في التوراة في العهد القديم, وفي العهد الجديد أعلن القديس يوحنا معمودية جديدة للتوبة استمدت قوتها من الغفران كرمز لمعمودية السيد المسيح والمسيحية فيما بعد, لكنها كانت عاجزة عن أن تهب النبوءة لله, ولا الروح القدس, ولا غفران الخطايا, كما شهد المعمدان بنفسه أن معموديته لا تقدم ما هو سماوي, وأن هناك من هو أقوي منه سيعمد بالروح القدس والنار.
لذا جاءت معموديته لتهئ الطريق وتعده أمام السيد المسيح, كما كان عبور البحر الأحمر خلاصا للشعب اليهودي في العهد القديم.
القديس يوحنا ذهبي الفم يري أن الشعب اليهودي في ذلك الحين عرف بقساوة القلب وعدم الإحساس بالخطايا, فجاءت معمودية التوبة علي يد يوحنا المعمدان لتشعل في داخلهم الشعور بالخطايا التي ارتكبوها وتهيئ الإيمان بالسيد المسيح الذي سيأتي بعده ويقدم معمودية غفران الخطايا والخلاص من خلال الدفن مع المسيح وصلب إنساننا العتيق وهو ما انفردت به معمودية العهد الجديد.
ويتساءل القديس كيرلس الأورشليمي إن كانت معمودية يوحنا قد جاءت كرمز لمعمودية السيد المسيح فيما بعد, فهل كانت قادرة أن تخلص من الخطايا حقا؟ يجيب: إن أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن قد جاءت واعتمدت منه في نهر الأردن, وهم معترفون بخطاياهم جاءوا ليتمتعوا بباكورات العماد, وهم يكشفون عن كل خطاياهم, ليقدم هو العلاج من خلال السيد المسيح بقوله: أنا أعمدكم بماء التوبة, ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوي مني لست أهلا أن أحمل حذاءه, هو سيعمدكم بالروح القدس والنار (مت 3: 11), فإن أردنا التأكيد علي أن معمودية يوحنا جاءت لتخلص اليهود من التهديد بالعقاب الأبدي.
* الميلاد والغطاس معا
يسجل مؤرخو الكنيسة أن مسيحيي الشرق في الأجيال الثلاثة الأولي كانوا يحتفلون بعيدي الميلاد والغطاس معا تذكارا لظهور سر الثالوث المقدس, ولكن لما تعنيه اليوم الذي ولد فيه المخلص, وكذلك يوم عماده من مؤلفات اليهود التي جمعها تيطس الروماني ونقلها من أورشليم إلي رومية, بجعلهما عيدين منفصلين يحتفلون بهما في وقتين مختلفين, ومن ثم نقلوا هذا التقليد إلي الغرب, كما شهد كانيانوس, وكان الغربيون ولايزالون يقيمون في هذا العيد سجود المجوس الذين بواسطتهم أعلن المسيح ذاته للأمم,
كما كان المسيحيون الأوائل يعمدون الموعوظين في هذا العيد وفي هذا الشأن, والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول: إن عيد الظهور الإلهي هو من الأعياد الأولية عندنا وتعين تذكارا لظهور الإله علي الأرض ومعاشرته للبشر, والقديس أوغسطينوس يقول: إننا بميلادنا من الماء والروح القدس نتطور من كل خطية, سواء كانت من آدم الذي به اخطأ الجميع أو بفعلنا وقولنا, لأننا نغسل منها بالمعمودية.. إن المعمودية تمحو جميع الخطايا الخطيئة الأصلية, والخطايا الفعلية, خطايا الفكر والقول والعمل, الخطايا التي يتذكرها الإنسان والخطايا المنسية, فالذي صنع الإنسان يجدد الإنسان بالماء والروح, من ترك هذه الحياة حالا بعد المعمودية لم يبق عليه شيء ليكفر عنه, فكل شيء غفر له.. شاء الرب أن يتم الخلاص من الخطيئة الجدية في المعمودية التي رسمها له المجد بشخصه المبارك لتكون واسطة الروح القدس لمنح الخلاص للذين يطلبونه, فالمعمودية هي الطريق البديل الذي رسمه السيد المسيح له المجد ليتم به الحكم علينا بالموت, إن الموت يتم فعلا في المعمودية بطريقة سرية روحانية غير منظورة يفعل الروح القدس الذي ينحدر علي مياه المعمودية.
وفي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة من كل عام تحتفل الكنائس الأرثوذكسية الشرقية بعيد الغطاس المجيد, ففي هذا اليوم من سنة 31 ميلادية اعتمد سيدنا وإلهنا وربنا يسوع المسيح من يد القديس يوحنا المعمدان, في نهر الأردن وفي عين نون تحديدا, حيث خرجت الجموع من كل الكورة المحيطة, وذلك بالماء فقط إعلانا لتوبة البشرية كلها, وتهيئة لمجئ المسيح الذي طال انتظاره والشوق إليه عبر آلاف السنين, وذلك في الستة أشهر السابقة لبدء خدمة السيد المسيح له المجد, حيث أسلم وسجن يوحنا يو 3: 25-36, وهذا اليوم يدعي باليونانية عيد الثاؤفانيا أي عيد الظهور الإلهي, وهو ثالث الأعياد السيدية الكبري السبعة, حيث كان القديس يوحنا يمارس كالمعتاد معمودية التوبة علي الشواطئ الأردنية, مناديا توبوا واعتمدوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات, لكن لم يحل الروح القدس في كل من عمدهم يوحنا, وباستثناء السيد المسيح الذي هو والروح القدس واحد في الجوهر فلم يكن الروح القدس مصاحبا لمعمودية يوحنا, وعلامة علي قبولها, وختم أدائها, كما تري في معمودية المسيحية فيما بعد في العهد الجديد.. إن يوحنا المعمدان بدأ معموديته بالماء فقط في نهر الأردن, وختم خدمته بمعمودية أخري بالماء والروح في عين نون أو عين ساليم.
ولذلك سمي هذا اليوم بعيد الظهور الإلهي للإله الواحد المثلث الأقانيم, فحيث كان الآب في السماء فهناك الابن أيضا في حضنه بذاته اللاهوتية, وبين يدي المعمدان بذاته الناسوتية, وحيث يكون الآب والابن فهناك روح الله ولاهوته يملأ السموات والأرض في كل مكان, فنحن إذن في عيد ظهور الرب الواحد في ثالوثه القدسي, الآب في ذاته والابن في معموديته, والروح القدس في حلوله, ولهذا صار العيد عظيما علي مر العصور, ففيه يتطهر المؤمنون بالماء مثل معمودية السيد المسيح له المجد, وينالون بذلك مغفرة لخطاياهم.
* الغطاس في عصور مختلفة
يذكر المقريزي 1365 – 1442م في ذكر أعياد القبط من النصاري بديار مصر, أن نصاري مصر لهم أربعة عشر عيدا في كل سنة من سنينهم القبطية: منها سبعة أعياد يسمونها أعيادا كبارا, وسبعة يسمونها أعيادا صغارا.. وأما عيد الغطاس عندهم, فهو ثالث أعيادهم الكبري, ويعمل بمصر عادة في اليوم الحادي عشر من شهر طوبة القبطي, وأصله عند النصاري أن يحيي بن زكريا عليهما السلام – المعروف عندهم بيوحنا المعمدان – عمد المسيح أي غسله بالماء في بحيرة الأردن, وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء اتصل به روح القدس من السماء, فصار النصاري لذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم من كل سنة تخليدا لهذه الذكري المباركة العظيمة, وينزلون فيه بأجمعهم, ولا يكون ذلك إلا في شدة البرد, ويسمونه يوم الغطاس, وكان له بمصر كلها موسم عظيم إلي الغاية.
وفي زيارته لمصر يروي أبوالحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي, أشهر علماء العرب ومعروف بهيرودوتس العرب, فهو مؤرخ ورحالة وبحاثة من أهل بغداد بالعراق, وكان كثير الأسفار قراء بلاد فارس والهند وسيلان وأصقاع بحر قزوين والسودان وجنوب شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والروم, وانتهي به المطاف إلي فسطاط مصر, وتوفي بالفسطاط 896 – 957م. ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها, ليلة لا ينام الناس فيها, وهي ليلة الحادي عشر من طوبة.. ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلاثمائة ليلة الغطاس بمصر, والأخشيد محمد بن طغيج أمير مصرفي داره المعروفة بالمختار, في الجزيرة الراكبة لنهر النيل, والنيل يطيف بها, وقد أمرنا فأسرج في جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل, غيرها أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع.. وقد حضر بشاطئ نهر النيل في تلك الليلة الخالدة آلاف من الناس من المسلمين ومن النصاري: منهم الزواريق القوارب, من النيل, ومنهم علي سائر الشطوط, لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجوهر والملاهي والغرف والقصف, ويستطرد المسعودي فيقول: وهي أحسن ليلة تكون بمصر كلها, وأشملها سرورا, ولا تغلق فيها الدروب, ويغطس أكثرهم في النيل, وهم يزعمون أن ذلك أمان من المرض ونشرة للداء والسقم علي مدار السنة.
وذكر عز الملك محمد المعروف بالمسبحي 977 – 1029م في تاريخه: أنه من حوادث سنة سبع وستين وثلاثمائة, منع النصاري من إتمام مظاهر تلك الاحتفالات, وبدأت في التقلص تدريجيا, حيث منع النصاري من إظهار ما كانوا يفعلونه في ليلة الغطاس من الاجتماع ونزول الماء وإظهار الملاهي, ونودي أن من عمل ذلك نفي من الحضرة, وبعد أن كان عيدا شعبيا قوميا يشترك فيه المسلمون مع النصاري, ومنع المسلمون من مخالطة القبط في أعيادهم بعد أن كانوا يأمرون بإيقاد المشاعل والشموع علي حساب الدولة الفاطمية, حيث كانت الدولة تشارك القبط فرحتهم, وقال: في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة كان عيد الغطاس, فضربت الخيام والمضارب والأسرة في عدة مواضع علي شاطئ النيل, ونصبت أسرة للرئيس فهد بن إبراهيم النصراني كاتب الأستاذ برجوان, وأوقدت له الشموع والمشاعل المصابيح, وحضر المغنون والمهللون, وجلس مع أهله يشرب.. إلي أن كان وقت الغطاس فغطس وانصرف, وقال: في سنة إحدي وأربعمائة وفي ثامن عشر من جمادي الأولي, وهو عاشر طوبة, منع النصاري مرة أخري من الغطاس في النيل, فلم يغطس أحد منهم في البحر, وازداد الأمر في السنوات التالية, قال المسبحي: في حوادث سنة خمس عشرة وأربعمائة, وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإغرار,
دين الله لقصر جده العزيز بالله في مصر, لنظر الغطاس ومعه الحرم, ونودي في ديار مصر ألا يختلط المسلمون مع النصاري عند نزولهم في البحر في النيل.. وضرب بدر الدولة, الخادم الأسود متولي الشرطتين, خيمة عند الجسر وجلس فيها, وأمر أمير المؤمنين بأن توقد النار والمشاعل في الليل, وكان وقيدا كثيرا للغاية, وحضر رهبان وقسوس النصاري من كل الأديرة والكنائس بالصلبان والنيران في أيديهم, فقسسوا أي أثاموا قداسا إلهيا هناك وصلوا كثيرا إلي أن غسطوا كلهم في النيل, وكانت الحراسة تشدد في تلك الليلة أثناء إقامة الصلوات وأثناء الغطس في النيل….
وفي تاريخ ابن المأمون نقرأ من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة يقول: وذكر الغطاس خفر (أي وزع) أهل الدولة ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترج (نبات من مجموعة الحمضيات ورد ذكره في سفر اللاويين من التوارة: (تأخذون لأنفسكم ثمر الأترج بهجة), والنارنج شجرةمعمرة دائمة الخضرة تنتمي إلي جنس الحمضيات تشبه البرتقال في الشكل وطعمها حامضي مثل الليمون, والليمون في المراكب, وأطنان القصب واليودي نوع من السمك, بحسب الرسوم المقررة بالديوان لكل واحد من أرباب السيوف والأقلام.
* معمودية المسيح
وحسنا سمت الكنيسة القبطية هذا العيد بعيد الغطاس, لأنها بذلك تذكر الشعب فيه أن السيد المسيح تعمد بالتغطيس, وتذكرهم أيضا بأن المؤمنين في العهد الجديد يتعمدون بالتغطيس, وهو ما تدل عليه كل الآثار القبطية القديمة بأن العماد كان – ومايزال – يتم في جرن يسمي جرن المعمودية, يغطس فيه المعمد ثلاث مراتو وهكذا تعمد الخصي الحبشي في بداية العصر الرسولي علي يد فيلبس, وأيضا لأن المعمودية صبغة باللاتينية Baptisma, والصبغة تتم بالتغطيس, ولأن المعمودية كذلك دفن مع المسيح, والدفن يتم بالتغطيس في القبر.. والمعمودية في المسيحية معناها أن ندفن مع المسيح ونقوم معه, فنصير متحدين معه بشبه موته وإقامته.
المعمودية إذن ليست ممارسة خارجية فحسب, بل إنها ترتبط بصميم حياتنا في الله, وبها ندخل في علاقة جديدة معه, إذ نصير أولادا لله, لا باستحقاق منا, بل لأننا لبسنا المسيح ابن الله الوحيد واتحدنا به بالروح القدس وعمله في الماء.. هنا نذكر كيف أن السيد الرب تقدم إلي معمودية يوحنا وهو غير محتاج إليها بالمرة, لكن ليكون بلا لوم أمام الناس, وأيضا لينوب عن البشرية كلها كما صام عنا, وكما صلب عنا!! كثيرا مما كان يفعله, كان من أجل غيره, وليس من أجل نفسه, لقد ناب عنا في أن يقدم لله الآب صورة للإنسان الكامل, يرضي الآب بحياته, كما يرضيه بفدائه للبشرية كلها!! وهكذا سار مع بقية الشعب كواحد منهم متقدما إلي معمودية التوبة, مع أنه ما كان خاطئا, لكنه حمل خطايانا, حمل خطايا العالم كله, وبهذا شهد يوحنا المعمدان الذي عمده, لقد حمل المسيح خطايا العالم, ونزل بها إلي المعمودية, وكذلك حمل هذه الخطايا علي الصليب ومحاها بيده.
السيد المسيح مع أنه بار بلا خطيئة, وهو بذاته تحدي اليهود فيما بعد قائلا لهم: من منكم يبكتني علي خطيئة (يو 8: 46), لكنه تم طقس معمودية التوبة, ولم يشذ عن هذا العمل الروحي الذي تقدمت إليه الجماهير التائبة, فوجدناه يسير كما يسير باقي الشعب الخاطئ نحو معمودية التوبة, كلهم تعمدوا معترفين بخطاياهم, أما هو فتعمد حاملا خطايا الشعب كله, وفعل هذا, لئلا تمسك عليه غلطة أو يحسب عليه نقص, وأيضا ليكمل كل بر, ولكي يكون أمام الكل خاضعا للناموس, مع أنه فوق الناموس.. أي تواضع هذا, الذي نراه في أحداث معمودية الرب, إن رئيس الكهنة الأعظم, ومانح الكهنوت, نال المعمودية من أحد كهنته, من أحد أولاده, من إنسان اعترف بعجزه واحتياجه قائلا له: أنا المحتاج أن أعتمد منك (مت 4: 14), كما اعترف بدونيته أمامه قائلا: أنا لست مستحقا أن أنحني وأحل سيور حذائه (يو 1: 27), وأمام هذه المحبة والالتزام من السيد المسيح نقف أمام رقته في الحديث مع يوحنا, إذ يقول له اسمح الآن.. حقا إن في قصة العماد أمثلة عديدة من التواضع الذي أثبته رب المجد, فبعد كل الأمجاد التي ظهرت أثناء عماده, في شهادة الآب, وحلول الروح القدس, وشهادة المعمدان, بعد كل هذا صعد الرب إلي الجبل, فجاء السيد المسيح ابن الله, في شبه صورة الناس, في شكل عبد يسلك في اتضاع, منذ مولده في مذود بسيط, وكذلك في عماده من عبده يوحنا المحتاج إليه, ومن تواضعه أيضا خضوعه للناموس, كما في العماد, لقد انتظر حتي بلغ سن الثلاثين حسب الناموس اليهودي, وما كان أسهل عليه أن يبدأ قبل ذلك بسنوات طويلة, وهو الذي في سن الثانية عشرة أذهل الشيوخ المعلمين في الهيكل بكلامه وحفظه للكتاب, فبهتوا من فهمه وأجوبته.. ولكنه انتظر إلي سن الثلاثين, وانتظر حتي اعتمد كالباقين, وحتي قضي فترة خلوة علي الجبل وجرب فيها ثم بدأ العمل والخدمة.
* سر المعمودية
علي أن معمودية المسيح إنما تذكرنا بمعمودتينا نحن أيضا, وبعمق اهتمام الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بها, فالمعمودية هي الأولي من أسرار الكنيسة المقدسة وباب الدخول إلي باقي الأسرار السبعة, تؤمن به وتمارسه, يقول المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث في إحدي عظاته: والعامة يقولون نصرنا فلانا, أي عمدناه, لأنه بالعماد صار نصرانيا.. وهو تعبير سليم في معناه اللاهوتي والكنسي يذكرنا يقول السيد المسيح من آمن واعتمد خلص (مر 16: 16), لذلك يوم العماد هو يوم عيد بالنسبة للطفل وأسرته, وفي هذا اليوم تمنحه الكنيسة ثلاثة أسرار مقدسة هي سر المعمودية والميرون أو المسحة المقدسة وسر التناول أيضا, وهي بذلك تمهده للمشاركة في حياة الكنيسة, وأن يصبح عضوا فيها, ويأخذ أول شهادة كنسية في حياته.. وتعين الكنيسة للطفل المعمد أشبينا أو ضامنا يتولي رعايته روحيا, وغالبا ما تكون الأم هي أشبينة طفلها, وتتعهد الأم أمام الله والكنيسة أن ترعي طفلها المعمد في خوف الله, وتكون هي المعلم الأول له, تلفقه كل أمور المسيحية, وتدربه عليها عمليا.
معمودتينا إذن غير معمودية يوحنا, ليست هي مجرد معمودية للتوبة, إنما هي ميلاد ثان من الماء والروح, وعنصر الماء هنا لا يخلو من القوة, قديما كان ملاك الرب ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء, فمن نزل أولا بعد تحريك الماء كان يبدأ من أي مرض هذه البركة كانت في أورشليم حيث كان يبدأ واحد كل عام.
* ينبوع ماء الحياة
عجيبة هي أهوال البحر, رنم هذه الترنيمة داود قديما, فقالها ثم أردف بعدها مغنيا بل عجيب الرب في الأعالي, فإذا كان هذا هو عمق البحر وجبروته وعظمته, فكم يكون عظمة خالق البحر والبر, الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها, والكتاب المقدس صدق حين عبر عن الأرض باسم اليابسة, وهي كلمة تدل علي أن الأرض كانت قبلا مبتلة بالماء ثم يبست, أو كانت مغمورة في الماء ثم نشفت فصار علي وجه الغمر ظلمة, فالماء يحمل في طياته الحياة والموت معا, فمنه يخرج الكائن الحي, فيموت ثانية ففي داخل أحضانه يختفي الموت مع الحياة وتجتمع الحياة مع الموت.. والماء رمز إليه بالروح القدس.
وفي العهد الجديد كثير من المعجزات تمت في الماء وعند الماء, معجزة تحويل الماء إلي خمر, معجزة تهدئة الرياح وإسكات الزوابع وإبكام العاصفة يوم أن كان الرب يسوع مع تلاميذه في السفينة في البحر, معجزة خروج دم وماء من جنبه بعد موته, بطعنة من الحربة, معجزة صيد السمك الكثير التي حدثت علي مرأي من القديسين بطرس وأندراوس أخيه, والقديسين.
يوحنا وأخوه يعقوب في أول دعوتهم, معجزة صيد السمكة ودفع الإستار كجزية عن المسيح وعن بطرس, معجزة صيد 153 سمكة بعد قيامته من الأموات, معجزة إقامة المخلع الذي ظل ينتظر لحظة الشفاء 38 سنة في بركة بيت حسدا, معجزة شفاء المولود أعمي, الذي ذهب ليغتسل في بركة سلوام, معجزة مشي المسيح علي المياه, معجزة مشي القديس بطرس علي المياه, حادثة لقاء يوم خميس العهد, إذ أخذ ماء وصب في مغسل وغسل أرجل تلاميذه ليفعلوا ببعضهم مثله, معجزة الفصح, حيث كان العلامة إنسان حاملا جرة ماء, هو الذي سيرشد التلاميذ للعلية المعدة لإقامة الفصح, لقاء المسيح مع المرأة السامرية عند الماء حين طلب ماء ليشرب وحيث روت نفسه بينبوع الماء الحي, وكانت المرة الأولي التي أطلق فيها لفظ ماء الحياة علي الرب يسوع, ثم عبر عنها سفر الرؤيا في مواضع شتي.
* تطور المعمودية
أخيرا لقد تطورت المعمودية لتمر علي مدي العصور بثلاث مراحل أساسية, المرحلة الأولي معمودية التوبة, التي فيها عمد يوحنا المعمدان كل الناس, وعمد السيد المسيح أيضا, كما عمد بعضا من تلاميذه الذين صاروا فيما بعد تلاميذا للمسيح, لكن في هذه المرحلة لم يحل الروح القدس في كل من عمدهم القديس يوحنا, باستثناء يسوع المسيح, والمرحلة الثانية هي معمودية التلمذة, وهي التي أجراها السيد المسيح له المجد أحيانا قبل صلبه, وقام بها تلاميذه بعد يوحنا, المعمدان المرحلة الثالثة هي معمودية المغفرة والميلاد الثاني والعضوية الجديدة في جسم الكنيسة المقدسة, وهي المعمودية التي نباشرها الآن ونعايشها, بدءا من عماد ثلاثة آلاف نفس يوم الخمسين بعد أحداث الصلب وحتي آخر الزمان, فهي معمودية المسيح والمسيحية والمسيحيين, فبعد صلب المسيح ذكر سفر أعمال الرسل عدة أحداث للمعموديات, معمودية الثلاثة آلاف معمودية السامرة كلها علي يد بطرس ويوحنا, معمودية الخصي الحبشي, وزير كنداكة ملكة الحبشة, علي يد فيلبس الرسول في أورشليم, معمودية شاول الطرسوسي في دمشق علي يد أحد التلاميذ ويدعي حنانيا, وذلك حين قام وذهب إلي الزقاق الذي يقال له المستقيم حيث عمده هناك معمودية كرينليوس علي يد القديس بطرس معمودية امرأة تدعي ليديا, بياعة أرجوان من مدينة ثياتيرا كانت تتعبد الرب, فاعتمدت هي وأهل بيتها علي يد القديس بولس الرسول, معمودية سجان فيلبس الذي كان يحرس بولس وسيلا في السجن علي يدهما هو وجميع من كان في بيته, معمودية شعب كورنثوس وعلي رأسهم كريسبس, رئيس المجمع, الذي آمن بالرب واعتمد هو وأهل بيته وكثيرون من الكورنثيين وذلك علي يد بولس الرسول حين كان مقيما في بيت رجل اسمه يوستس كان متعبدا لله وكان بيته ملاصقا للمجمع معمودية تلاميذ كورنثوس علي يد بولس الرسول أيضا معمودية بيت أسطفانوس وكريسبس وغايس علي يد الرسول بولس.
* * يذكر أن قداسة البابا تواضروس الثاني كان قد زار مكان المغطس في نهر الأردن الذي شهد معمودية السيد المسيح, وذلك عام 2016, برفقة وفد من الآباء الأساقفة بالكنيسة القبطية, ورافق قداسته خلال الزيارة الأمير غازي بن محمد كبير مستشاري الملك عبدالله للشئون الدينية والثقافية, والمبعوث الشخصي للملك عبدالله ملك الأردن في هذه الفترة, وكانت هذه الزيارة هي الأولي لقداسة البابا تواضروس الثاني إلي العاصمة الأردنية عمان منذ تنصيبه علي كرسي مارمرقس الرسول.
* مراجع الدراسة:
- مروج الذهب ومعادن الجوهر – أبوالحسن بن علي المسعودي.
- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار – تقي الدين أحمد بن علي المقريزي.
- الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر – القمص تادرس يعقوب ملطي.
- معمودية المسيح ومعمودية المسيحية – القمص سيداروس عبدالمسيح.
- السنكسار القبطي.
- محاضرات ألقاها نيافة الأنبا شنودة بالقاعة المرقسية بالأنبا رويس سنة 1966.