عودة مرة أخرى إلى الموضوع القديم الجديد.. منذ سنوات طويلة، رجعت إلى بيتي في مساء أحد الأيام لأجد ابني الأصغر جالسًا يكتب شيئًا والغضب واضح على وجهه.. ولما سألته عما يكتبه انفجر باكيًا، وحكى لي أنه نسي كتاب المادة فعاقبته معلمته بألا يخرج إلى “الفسحة”، ويبقى في الفصل ليكتب نصًا عشر مرات.
وبالطبع نزل ابني إلى الفسحة مع زملائه.. فتضاعف العقاب، وكان عليه أن يكتب النص أربعين مرة في البيت، وإلا يأتي في الغد بولي أمره! مش عاوز حد يسألني عن رد فعليتجاه هذا النوع من العقاب! اسألوني عما قالته لي مديرة المدرسة عندما بادرت بالذهاب إليها لأناقش الأمر:”ممكن تقولي يا أستاذ أعاقب ابنك إزاي؟” “يا ستي اطلبي منه يقرا قصة، وفي اليوم التالي يقدم ملخصًا عنها لباقي زملائه!” “يا سلام ! دي تبقى مكافأة مش عقاب!!” “معاكي حق.. هوا أنا جايب ابني المدرسة علشان يتعلم ولا علشان يتعاقب؟”.
ليس مهمًا نوع المدرسة التي ترسل إليها أبناءك.. حكومية أو خاصة، عربي أو لغات؛ لا تزال أغلب مدارسنا تتعامل مع قضية الواجب المنزلي بـأسلوب يفقده الغرض التعليمي منه، ويجعله أقرب للعقاب من أن يكون وسيلة لتطوير المعرفة، وتنية مهارات التفكير.
تُرى كيف نساعد أبناءنا لينجزوا الواجب المدرسي بحيث لا يكون على حساب تنمية مقدراتهم الشخصية؛ فيصبح الابن وكأنه ترس في آلة الدراسة.. في الصباح “هَم”المدرسة، وفي المساء “نكد” الواجب المنزلي؟!
قد لا يكون بمقدورنا دائمًا أن نغير مفهوم معلمي مدارس أبنائنا عن الغرض من الواجب المنزلي، وأنه ليس لأجل الدرجة، لكن قبل أي شيء من أجل تنمية قدرات التعلم وتوسيع دائرة المعرفة.. لكن بالتأكيد يمكننا كوالدين أن نطور نظرتنا نحن للحجم والأهمية اللذين يستحقهما الواجب المنزلي: كيف نجعل منه وسيلة تعمل معنا لتنشئة أبناء تكون المعرفة مصدر قوة في حياتهم؟ كيف نوازن بين الوقت الذي يعطيه الأبناء لحل الواجب وممارستهم للأنشطة الأخرى التي يحبونها، والوقت الذي يقضونه معنا كأسرة أو مع أصدقائهم؟ كيف يمكن أن يكون الوقت الذي قد نقضيه في مساعدة أبنائنا في عمل الواجب فرصة لتوثيق علاقتنا معهم وليس لتدميرها؟
أبناؤنا يحتاجون دائمًا أن يجدوا سببًا منطقيًا لأداء ما نطلبه منهم من أعمال، أو ننصحهم أن يتبعوه من سلوكيات.. هنا تمكن أهمية خلق الدافع؛ حتى لا يكون امتثالهم لأداء المطلوب منهم عن اضطرار أو إجبار. خلق الدافع أو الحفز على الاجتهاد غذاء يحتاجه العقل ليعطي للشخص الرغبة في تأدية ما عليه من التزامات.. ومثل أي غذاء لا يكفي أن يُعطى لمرة واحدة، لكنه احتياج لا يوفى إلا بالحوار المستمر في إطار من الحب، والاحترام المتبادل للمشاعر والأفكار. الدافع الذي يُخلق بالحوار يصبح مع الوقت اتجاهًا في الحياة إذا استطعنا أن نربط بين إنجاز المطلوب بقلب، ومستقبل كفاءة الأبناء مهنيًا، وقدرتهم على استيعاب متغيرات عصرهم، وصنع الاختيارات التي تحقق لهم النجاح والسعادة.
“الزن” على الأبناء ليهتموا باستذكار دروسهم يجعلهم يكرهون التعليم! كما أن “المقارنة” بين أدائهم وأداء الآخرين ينتج عنه شعوربالنقص يؤثر سلبيًا على تحصيلهم الدراسي.
كما لا يجب أن تُجبر ابنك أو ابنتك على الاستذكار، يجب أيضًا ألا ترشيهم بأي شيء ليذاكروا لوقت أطول.. الذي لا يتحقق بالتشجيع لن يُنجز بالوعود. العقول تعمل بطريقة أفضل عندما لا تكون تحت ضغط.. لنكف عن طلب تحقيق الكمال (الدرجة النهائية)، ولنركز على التميز في العلم الذي يجيده الأبناء بطبيعتهم.التفوق قد يعني ٧/ ١٠ في مادة، و١٠/١٠ في أخرى.
تدريب الأبناء على الاستفادة من وقت شرح الدرس في الفصل بأقصى ما يمكنهم يسهل من عمل الواجب المنزلي.. شجعهم على التركيز مع ما يسمعونه من المعلم، ودربهم على أن يعتادوا التفكير في الأسئلة الجيدة التي تأخذ المعلومة الجامدة إلى عالم التطبيق. حوار الأبناء مع معلميهم يعبر عن ذكاء يتوق لأن يعرف أكثر، ويوفر جوًا من بهجة التعلم في وقت الفصل بدلاً من سلبية الاعتماد على توقع الفهم في الدرس الخصوصي.
إذا أردت أن تجعل الوقت الذي يقضيه أبناؤك في المذاكرة بناءً وممتعًا، لا تجعله قاصرًا على إجابة الاسئلة بأسلوب تقليدي، أو حل المسائل ميكانيكيًا بدون تفكير.. هذا يحتاج منا لبعض من التفكير الخلاق وبذل الجهد لنزرع مبكرًا في أبنائنا روح البحث بدلاً من الصراع لتثبيتالمعلومة “بالعافية” في الذهن حتى يوم الامتحان، ولا يهم أن تبقى فيه بعد ذلك أو تتبخر إلى عالم النسيان.
مَنْ يريد لأبنائه أن يُقبلوا على الدراسة بشغف، ليكف عن ترديد الأقوال البالية؛ لأنها لا تأتي إلا بعكس ما يُقصد بها.. “التكرار يعلم الشطار” ده مثل مش بتاع النهارده، بل التكرار لأبنائنا “يزهق الشُطار ولا يعلم الحمار!” “راجع مرة كمان” عبارة خطيرة تفقد الأبناء ثقتهم بأنفسهم، وتعطل عقولهم عن التفكير الخلاق في حل الأسئلة التي لم تمر عليهم من قبل. “يوم الامتحان يُكرم المرء أو يُهان” كلمات لا معنى لها سوى التأكيد على غير حق أن قيمتك الشخصية تساوي الدرجة التي تحصل عليها.. وهذا ظلم شديد، يحرم الأبناء من أن يختبروا مع الأيام الحياة الممتلئة ببهجة الإنجاز الشخصي. ما أروع ما قاله الحكيم عن هذا الأمر: “أرأيترجلاً (ابنًا أو ابنة) مجتهدًا في عمله (ماهرًا في دراسته)؟ أمام الملوك يقف (ربما ليتسلم جائزة نوبل في العلوم)، لا يقف أمام الرعاع (لا يكون مكانهمع أصحاب الوظائف المتواضعة)!” (أمثال ٢٢: ٢٩).. وإلى بقية الحديث في المرات القادمة.