أهمية أبينا إبراهيم:
حينما نتحدث عن أبينا إبراهيم, نذكر أهمية شخصيته:
1- إنه الشخص الذي تجتمع حوله ثلاث ديانات: اليهودية والمسيحية والإسلام.
2- وكان اليهود يفتخرون باستمرار أنهم أبناء إبراهيم, حتي وبخهم القديس يوحنا المعمدان قائلا: لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا, إني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم (مت 3: 9).
3- نقول أيضا إن الأبرار بعد موتهم يذهبون إلي أحضان إبراهيم, وقد ذكر الكتاب أن لعازر المسكين لما مات حملته الملائكة إلي حضن إبراهيم والغني رأي إبراهيم من بعيد, ولعازر في حضنه (لو 16: 22, 23).
4- وإبراهيم هو أول شخص غير الله اسمه في مباركته, كان اسمه أبرآم فدعاه إبراهيم وقال له: لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم (تك 17: 5).
5- ومن أجمل ما يقال عن إبراهيم, قول الله عن نفسه لموسي النبي أنا إله أبيك, إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب (خر 3: 6), وقد ذكر السيد المسيح هذه الصفة إله إبراهيم.. في حواره مع الصدوقيين (مت 22: 32).
6- ولا ننسي إطلاقا أن ربنا يسوع المسيح قد جاء من نسل إبراهيم, كما ورد عنه في سلسلة الأنساب أنه ابن داود بن إبراهيم (مت 1: 1).
7- وقد بارك الله إبراهيم وقال له بالأكثر تتبارك فيك جميع قبائل الأرض (تك 12: 3) ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض (تك 22: 18).
8- ولما قبل الرب توبة زكا العشار ودخل بيته وتذمر اليهود, فقال: اليوم حدث خلاص لهذا البيت, إذ هو أيضا ابن لإبراهيم (19: 9).
9- وفي بنوة المؤمنين جميعا لإبراهيم, قال القديس بولس الرسول الذين هم من الإيمان أولئك هم أبناء إبراهيم (غلا 3: 7).
10- ومن عظمة إبراهيم, لقبه أبوالآباء والأنبياء.
دعوته:
في يوم لا يعرفه, دعاه الله, وقال له: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك, إلي الأرض التي أريك… (تك 12: 1).
إن الله يختار من يشاء, ويدعو من يشاء, للهدف الذي يريد وكان إبراهيم وقتذاك في أور الكلدانيين ما بين النهرين.
كان ابن خمس وسبعين سنة حين دعاه الله (تك 12: 4).
كل حياته قبل دعوة الله له لا نعرف عنها شيئا.
إنها أيام مجهولة, أو غير مهمة في التاريخ, فنحن لا نعرف ماذا كانت حياته في أور, إنما حياته الحقيقية في الكتاب تبدأ بدعوته, وأصبحت بهذه الدعوة جديرة بالتسجيل.
أول شيء كان في دعوته, هو ترك البيئة الشريرة,
كانت أور ذات حضارة كبيرة, ولكنها كانت وثنية, وكان من صالح إبراهيم أن يترك تلك البيئة, لكي يحيا في جو طاهر مع الله, ليس فقط المكان, إنما كل العشيرة, كل عواطف القرابة الجسدية أيضا.
وترك البيئة الخاطئة, تحدث عنه داود النبي في المزمور الأول عن الإنسان البار الذي لم يسلك في مشورة الأشرار, وفي طريق الخطاة لم يقف, وفي مجلس المستهزئين لم يجلس (مز 1: 1), وقال أيضا القديس بولس الرسول: إن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة (1كو 15: 33), وفي الشريعة أمر الرب بالبعد عن الخلطة الوثنية والنساء الغريبات, وقدم لنا الرب خبرة في حياة سليمان وشمشون, فقيل وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخري, ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه (1 مل 11: 4), وهكذا أضاع شمشون نذره وأذله الأعداء نتيجة لخلطته الخاطئة مع النساء الغريبات (قض 16), وحسب أمر الله, ترك أبرآم أرضه وبيت أبيه.
أول هجرة:
وكان خروج إبراهيم من أرضه, أول هجرة مقدسة.
كانت هجرة بأمر الله لم يسع إليها أبونا إبراهيم, ولم تكن تحقق إحدي شهواته أو مصالحه, بل لم يكن يعرف إلي أين يذهب (عب 11: 8), بل كان الغرض أن يلتقي بالله في مكان يمكن أن يعبده فيه.
مثلها هجرات أخري ذكرها الكتاب وكانت للخير:
كهجرة رفقة التي تركت بيت أبيها لتذهب إلي إسحق زوجة له, وككل عروس تطيع قول الكتاب اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك, وانسي شعبك وبيت أبيك.. (مز 45: 10), ونفس هذه العبارة من الرموز استخدمها القديس جيروم في مجال رهباني فكل الرهبان أطاعوا نفس العبارة التي قيلت لأبينا إبراهيم اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك, إلي الأرض التي أريك (تك 12: 1).
ونفس هذه الهجرة رمز للكنيسة التي هجرت أمور العالم لتتحد بالرب ورمز أيضا لحياة الغربة وحياة التكريس, والدعوة الإلهية, وتنفيذ مشيئة الله, كما قيل عنه: لما دعي أطاع (عب 11: 8).
وكانت دعوة مصحوبة بوعد, أي ببركة وبركة شاملة:
البركة:
قال له الرب فأجعلك أمة عظيمة, وأرباركك, وأعظم اسمك وتكون بركة, وأبارك مباركيك, ولاعنك ألعنه, وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض (تك 12: 2, 3).
منذ أن خلق الله الإنسان منحه البركة, هكذا بارك آدم وحواء ببركة السلطة والكثرة (تك 1: 28) ونفس البركة منحها لنوح وأولاده (تك 9: 1, 2), وهذه هي البركة الثالثة منحها لإبراهيم وبنيه.
جعله الرب مباركا وأيضا يكون بركة
جميل أن يكون أبناء الله بركة للزمان الذي يعيشون فيه, وأيضا للمكان الذي يحلون فيه مثلما كان إيليا بركة في بيت أرملة صرفة صيدا وإذا كوار الدقيق لا يفرغ, وكوز الزيت لا ينقص طول مدة المجاعة (1 مل 17: 14), كما أقام ابنها من الموت, كذلك كان أليشع بركة في بيت الشونمية (2 مل4).
وكان يوسف الصديق بركة في بيت فوطيفار, ويقول الكتاب إن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف, وكانت بركة الرب علي كل ما كان له في البيت وفي الحقل (تك 39: 5) بل كان يوسف أيضا بركة لكل أرض مصر, فنجت من المجاعة, وأشبعت الشعوب المحيطة..
وفوق الكل كانت العائلة المقدسة بركة في أرض مصر, وقال الرب مبارك شعبي مصر (أش 19: 25), وصار للرب مذبح في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها وصار الرب يعرف في أرض مصر, ويعرف المصريون الرب (مز 19: 19, 21).
جميل أن الرب يبارك أولاده, ويبارك الناس بهم.
وهكذا كان الآباء يباركون أبناءهم, وكان الأبناء يتهافتون علي بركة آبائهم, كما تنافس يعقوب وعيسو علي نوال بركة أبيهما إسحق (تك 27), وكما قدم يوسف الصديق ابنيه أفرايم ومنسي لأبيه يعقوب لكي يباركهما, واهتم بوضع يد أبيه اليمني علي أكبرهما (تك 48: 8-19).
وبالإضافة إلي بركة الآباء, كانت بركة الأنبياء والكهنة.
وأمثلتها كثيرة جدا في الكتاب المقدس, وقد لقن الرب موسي وهارون بركة يباركون بها الشعب, وأنتم تعرفون أن كل اجتماع في الكنيسة إنما يختم بالبركة, فيقول الكاهن للشعب: محبة الله الآب, ونعمة ابنه الوحيد, وشركة وموهبة الروح القدس, تكون مع جميعكم (2 كو 13: 14).
المكان:
علي أن الله بارك أبانا إبراهيم في المكان الذي اختاره الرب.
كانت بركة الرب له نتيجة لهجرته التي أمره الرب بها, وفي الموضع الذي عينه الرب, يذكرنا هذا بتلك العبارة التي قيلت في سفر النشيد .. هناك أعطيك حبي (نش 7: 12), ويقول الرب للمريمتين بعد القيامة قولا لإخوتي أن يذهبوا إلي الجليل, وهناك يرونني (مت 28: 10).
إن الله يحدد المكان الذي نراه فيه, والذي يعطينا فيه حب, فليس كل مكان يمجد الله, وليس كل مكان نري فيه الله.
يذكرنا هذا أيضا بأن بعض الكهنة يختارون مكانا يخدمون الله فيه, وقد يصرون علي مكان معين, ويرفضون مكانا آخر!!
إن إبراهيم مثال للشخص الذي لا يختار لنفسه مكانا, لا من جهة البقاء في أور, ولا من جهة المكان الذي هاجر إليه, ولا المكان الذي يعيش فيه عندما حدث خلاف بين رعاته ورعاة لوط, بل ترك الأمر لحرية اختيار لوط (تك 13: 8, 9).
المكان الذي يختاره الرب لنا, هو المكان الأصلح, إن كانت لنا حياة التسليم, وهكذا حدث حينما اختار الله لبولس الرسول أن يخدم في مقدونية (أع 16: 6-10).
قال الرب لأبرآم اذهب.. إلي الأرض التي أريك (تك 12: 1), ولم يره الأرض وقتذاك, وتركه يذهب وراءه إلي المجهول.
يكفي دعوة الرب أن نذهب وراءه, وليس لنا أن نتأكد من المكان, المكان الذي يكون الرب فيه, ويرعانا فيه, هو المكان الصالح.
قال الرب لسمعان وأندراوس هلم ورائي… (مت 3: 19), ولم يقل لهما إلي أين, ولا هما سألاه إلي أين؟! وإنما تركا شباكهما, وتبعاه, وقال لمتي – وهو في مكان الجباية – اتبعني (مت 9: 9), ولم يقل له إلي أين يتبعه, ولا سأله متي عن ذلك, وإنما قام وتبعه..
وهكذا فعل أبونا إبراهيم, وكأنه يقول للرب: أنا لا أسألك يارب عن المكان الذي تقودني إليه, يكفي أنك تكون معي فيه.
قد يحدد الرب مكانا يختلي فيه مع من يحبه, كما اختار جبل سيناء حيث التقي مع موسي النبي, وسلمه الشريعة وحيث لمع وجه موسي بالنور حتي احتاج إلي برقع ليستطيع الناس أن ينظروا إليه (خر 34: 29-35).
لقد اختار لوط لنفسه الأرض المعشبة, وكان اختيارا رديئا.
وقال عنه الكتاب: وكان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم, يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالأفعال الأثيمة (2 بط 2: 8), ثم حدثت له هناك تجربتان: الأولي سبي سادوم, حيث وقع مع أهلها في السبي, ونجاه أبرآم الذي لم يختر لنفسه مكانا (تك 14: 11-16), والثانية حرق سادوم ونجاته بأعجوبة بشفاعة إبراهيم.
نلاحظ في دعوة إبراهيم مشكلة رفقائه, إذ أمره الرب ليس فقط أن يترك أرضه, وإنما أيضا بيت أبيه ولكنه سلك في ذلك بالتدرج, إذ أنه ترك أرضه, ولكنه كان معه أبوه تارح, ولوط ابن أخيه هاران (تك 11: 31) (تك 12: 5).. ولذلك لم يسترح إلا بعد أن انفصل عن هذين: عن أبيه تارح الذي مات في حاران (تك 11: 32) وعن لوط ابن أخيه الذي تركه وسكن في سادوم (تك 13: 12).
ترك من أجله:
المهم أن أبانا إبراهيم بدأ حياته مع الله بترك أرضه وعشيرته.
ونفس الوضع كان بالنسبة إلي الآباء الرسل: لم يكتفوا بأن تركوا الشباك وتركوا السفينة كصيادين وتبعوا الرب (تك 3: 20, 22), وإنما قال القديس بطرس أيضا للرب ها قد تركنا كل شيء وتبعناك (مت 19: 27).
وأنت ماذا تترك من أجل الرب؟ تترك حياتك الخاطئة بالتوبة, وتترك من مالك العشور والبكور وما يطلبه منك المحتاجون وتترك شهوة الطعام بالصوم, وتترك من وقتك يوما للرب وأجزاء من وقتك للصلاة والعبادة, وتترك أصدقاء السوء كما يأمر المزمور (مز 1), بل تترك أهل بيتك إن انطبق عليهم قول الرب أعداء الإنسان أهل بيته (تك 10: 36), أو إن انطبق عليهم قول الرب أيضا من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني (مت 10: 37).
علي أن أبانا إبراهيم لم تقتصر حياته علي عنصر الترك من أجل الرب, إنما كانت له فضائل كثيرة.
فضائل إبراهيم:
أول ما نذكره في فضائله: حياة الطاعة والتسليم: فلما دعاه الرب إلي ترك أرضه وعشيرته, أطاع وهو لا يعلم إلي أين يذهب (عب 11: 8), ولما أمره الرب أن يقدم ابنه وحيده إسحق محرقة لم يتوان, بل أخذه معه وأخذ الحطب والسكين ورفع يده ليذبحه (تك 22: 9, 10).
يتميز إبراهيم بفضيلة أخري هي الكرم: فلما جاءه ثلاثة ضيوف اختار عجلا رخصا وسلمه للغلام ليطبخه, بينما كان يكفي الثلاثة أن يذبحوا لهم ديكا أو علي الأكثر ماعزا أو خروفا, كما أمر بتقديم ثلاث كيلات دقيق لتصنع لهم خبزا, بالإضافة إلي ما قدمه من لبن وزبد (تك 18: 6-8) كل ذلك ليأكل الضيوف ويأكل أيضا الرعاة والخدم فرحا بقدوم الضيوف.
يتميز إبراهيم أيضا بالتواضع: فلما أتاه الضيوف سجد لهم إلي الأرض وغسل أرجلهم وقال لهم: آخذ كسرة خبز, فتسندون قلوبكم ثم تجازون لأنكم قد مررتم علي عبدكم (تك 18: 2-4), كذلك سجد لبني حث (تك 23: 7) في مناسبة شرائه أرضا منهم لتكون مقبرة.
تميز إبراهيم أيضا بالنخوة والشجاعة وظهر ذلك واضحا في قصة سبي لوط مع أهل سادوم إذ يقول الكتاب فلما سمع أبرآم أن أخاه قد سبي, جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر, وتبعهم إلي دان, واسترجع كل الأملاك ولوطا أخاه أيضا (تك 14: 14-16).
وفي ذلك الحادث تميز بعفة اليد أيضا فلما عرض عليه ملك سادوم أن يأخذ الأملاك التي استردها رفض قائلا: لا آخذ منك خيطا ولا شراك نعل, فلا تقول أنا أغنيت أبرآم (تك 14: 23).
وتميز أيضا باحترام الكهنوت مع أنه كان كاهنا لأسرته فسمح لملكي صادق كاهن الله العلي أن يباركه وقدم له إبراهيم العشور (تك 14: 18-20).
وتميز إبراهيم أيضا بأنه رجل المذبح, ففي كل مكان ينتقل إليه, كان يبني مذبحا للرب ويصعد له محرقات (تك 12), وكان رجل الخيمة التي تمثل في سيرته حياة الغربة, إذ ليست لنا هنا مدينة باقية.
وكان يتميز أيضا بالشفاعة في غيره, واللجاجة مع الله في ذلك.
وقد ظهر هذا بوضوح في شفاعته في أهل سادوم, بدالة كبيرة, حتي قال له الله أخيرا: إن وجد فيها عشرة, لا أهلك المدينة لأجل العشرة (تك 18: 23-32).
وتميز إبراهيم ببعده عن الخصومة, ويظهر ذلك في علاقته مع لوط (تك 13), وفي علاقته الطيبة مع زوجته سارة.