مازال موسم العرائس في توهجه، ومازالت الفتيات المحتاجات للمساعدة تبحثن عن الأمل، ومازال القدر يضن عليهن به، خرج الأمر عن المألوف، وصارت المحتاجات معدمات، والمستورات محتاجات، والمساهمات فقط مستورات، في كل يوم تتراجع عوامل الرضا، وتنغلق مخارج الستر فلا يراها أحد.
حدثني أحد الآباء الكهنة، كان في حرج لكنه لم يتردد من أجل تلك المسكينة التي لا تقل احتياجاً عن بنات حراس العقارات اللاتي كتبنا عنهن من قبل، قال لي: إنها من الأسر التي كانت مستورة جدا، لكن تدهور حال والدها وأقعده المرض، حتي صار حال الأسرة يرثي له.
الوالد كان سائق تاكسي، أصيب بجلطة في المخ، طافت به الزوجة في كل مكان، لم تجد معيناً ولا سنداً، أنفقت كل ما تمتلك على علاجه وباعت مسكن الزوجية، شقة تمليك حتى لا تمد يدها لأي شخص، لكن إرادة الله كانت أقوى من محاولاتها، لم تفلح محاولات العلاج، وانزوى الرجل في البيت مريضًا حزينًاً، مغلوبا على أمره، لا يستطيع العمل نهائياً فالجلطة تركت أثرًا على جسده فلا حركة ولا حياة في أطرافه ولسانه.. أما الزوجة، لم تكن تعمل لكنها التحقت بعمل بسيط يناسب قدراتها، عاملة نظافة في إحدى المدارس.
الأخوة أحدهم 12 سنة والآخر 15 سنة في سنوات الدراسة، خلاف العروس، ولا يمكن أن يتركوا الدراسة، العروس هي الأخت الكبرى حاصلة علي دبلوم تجاري، ومخطوبة لموظف بسيط، تنقصها الأجهزة الكهربائية، وحجرة النوم لإتمام الزيجة، وطقم أطباق وأدوات مطبخ، ولا يمكن تحمل كل هذه التكلفة دون إدراج اسمها ضمن أخوة الرب، ولا يمكن أن توافق على ذلك فقد كانت ممن يساعدون أخوة الرب.
تأملت الحديث وكلي تعجب، من يعلم بأخبار الذين لم ينكشف عنهم غطاء الستر أمام الناس بينما رفعوا عيونهم إلي الله يطلبون الستر منه، من يمكنه أن يربت على أكتاف أولئك الذين كسرتهم الأقدار، وأذلت العزة فيهم؟ لا أحد يعلم عنهم شيئا لأنهم قرروا ألا يتاجروا بمواجعهم، ومنعتهم كرامتهم الأولى حينما كانوا ميسورين، من التسول لمن يعطي.
قررنا الذهاب إلى الفتاة في منزلها، قد يمكننا مساعدة تلك الأسرة، بشكل عام وليس فقط في جهاز العروس، حملنا وصية الأب الكاهن وبحثنا عن العنوان، إنه منزل في حارة من حارات حي شبرا، وجدنا أنفسنا أمام عقار متهالك جداً، بابه أضيق من باب حمام في مساكن الأيواء، سلم مظلم كما حياتهم، وضيق كما معيشتهم، أما السكن فحدث ولا حرج، أسقف الشقة من الخشب القديم والحوائط، تلونت باللون الرمادي الغامق الذي اتسخ ولم تزل اتساخه محاولات التطهير، الأرض مفروشة بالحصير، والأثاث متواضع للغاية، فقد باعت الأسرة كل أثاثها لتنفق على الوالد المريض، وانتقلوا من سكنهم التمليك لسكن إيجار جديد، هذا هو حالة.
الرجل مريض لا ينطق فقد أصابته الجلطة بشلل وثقل في اللسان، هذا بخلاف الضغط والسكر، تعمل زوجته وتتقاضي ألف جنيه عن عملها، لكن ماذا تفعل ألف جنيه في هذا الزمن الذي صارت القوة الشرائية فيه للجنيه لا تساوي بيضة نعم إذا كان سعر البيضة جنيه ونصف الجنيه فماذا تشتري الألف جنيه وكيف تعيش أسرة من خمسة أفراد؟!
سألت الزوجة كيف توفقين أوضاع حياتك فأجابت في حرج: ”العيشة ضيقة أوي، وأنا ماقدرش أعمل أكتر من اللي باعمله، بس لما الحمل تقل عليا، اضطريت أروح لأبونا في الكنيسة اللي بيحضر فيها الولدين، وطلبت منه يجي يشوف بيتنا، وفعلا حضر، وأدرجنا في كشف أخوة الرب، وبدأ يدينا 200 جنيه كل شهر، لكن نفس الأزمة مافيش أي حل مع غلاء الأسعار الأخير، المواصلات بتاكل نصف القبض، والعلاج النصف التاني، لا عارفين ناكل ولا نشرب، ولا نلبس ولا نجهز البنت اللي حيلتنا.”
“والمشكلة في دخول الشتاء وإحنا ماعندناش سراير كفاية ولا سجاد للأرض يدفينا ولا بطاطين كفاية ، وإحنا بعد جواز البنت هانبقي أربعة، بس أعملي معروف أوعي تجيب لنا دفاية علشان مش هاقدر أدفع فاتورة الكهرباء، حقك علينا إحنا غصب عننا بنحاسب أوي على كل حاجة علشان مانضطرش نمد أيدينا بس برضه مافيش فايدة.”
“عارفه لو الولدين كبار كنت شغلتهم، بس مارضيتش أضيع مستقبلهم، ولا أرميهم يتعلموا صنعة وهم لسه واحد في الإعدادية والثاني في الابتدائية، ولا يرضي ربنا نفضل بالجوع ولا يرضي ربنا الراجل يقعد من غير علاج، بعنا الشقة وجينا هنا نروح فين تاني، مافيش مكان هيلمنا، ده إحنا مكسور علينا إيجار أربع شهور الشهر بـ500 جنيه، وربنا وحده أعلم بالعيشة، ولا أم ولا أب يساعد، أبويا وأمي ماتوا من زمان، وهو كمان، وأهالينا على أد حالهم، اللي بيقدر يساعد بيساعد نفسه، واللي ما بيقدرش بيقول يلا نفسي أنا تعبت أوي، بس نفسي البنت تتستر، ونكمل لها جهازها من غير ما نجرحها قدام خطيبها، ده كتير؟! ده كتير يارب؟! كتير علينا نفرح بالبنت اللي حيلتنا يارب؟!.”
ظلت السيدة تصرخ بهذه العبارة وتقرع صدرها بكلتا يديها وتبكي، حتى بكى الجميع، عيون مكسورة، ونفوس جريحة، ومحرومة، وغيرهم يبيتون لياليهم لا يجدون أين ينفقون أموالهم، أسال عدل الله الحضور، قبل أن ينفك رباط هذه الأسرة، فالابن الأكبر ما عاد يحتمل عجز ابيه، وحسرة أمه، ويفكر جيداً في ترك المدرسة ليساعدها، ولا يعلم أنه في سن، قد لا يستطيع فيه مساعدة نفسه إذا لم يجد العون المناسب، أما الابن الأصغر، فيقول: نفسي أموت علشان أوفر أكلي ومصاريفي .. يا الله كم كانت موجعة تلك الكلمات، أما شقيقتهم العروس، فترى أن رحيلها سوف يخفض حملاً من على كتف والدتها، لكن ما حدث هو العكس إتمام الزواج مكلف.
كثيرون لا يملكون المال لكنهم يملكون الكرامة، لكن حتى الكرامة لا تكفي في هذا الزمن!
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة