حياة الرضا
ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين, ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان
(2كو2:14)
ثانيا: أسلوب حياة
إن الجانب الثاني في حياة الرضا, أنها أسوب حياة وممارسة يومية, يمارسه الإنسان في حياته.. في أسرته.. في دراسته.. في عمله.. في خدمته, ويجب أن نحافظ علي هذه الفضيلة.
عندما نتأمل في إجابة أمنا العذراء مريم, علي الملاك الذي أتي ليبشرها بميلاد ربنا يسوع المسيح, نجد أنه بالرغم من أن هذه البشارة, كانت بشارة عجيبة جدا, ولم يسمعها أحد من قبل في تاريخ البشرية, إلا أنها أجابت علي الملاك بالإجابة التي تعبر عن تمام حياة الرضا, فقالت: هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك (لو1:38).
بالرغم من أن أمنا العذراء مريم كانت صغيرة في السن, ونشأت في مجتمع شبه مغلق, وأيضا هذه البشارة بكل المقاييس النفسية والاجتماعية تعتبر أمرا مرفوضا تماما, لأنها فتاة عذراء صغيرة في السن, فكيف يحدث معها هذا؟! إلا أننا نجد أن أمنا العذراء مريم قد قبلت البشارة بكل رضا.
وهذا يبين لنا أهمية هذه الفضيلة في حياتها إذ قد تربت في سنوات طفولتها الأولي علي القبول, بمعني قبول الكلمة.. وقبول البشارة, أو كما يقول القديس بولس الرسول: قد تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه (في4:11) بمعني أن يقول الإنسان: أنا في يدك يارب, فافعل بي كل ما تريد.
ولكننا في أحيان كثيرة نجد أن طريقة حديث الأب مع الأم في المنزل, تكون بطريقة ممتلئة من التذمر وعدم الرضا, ونتيجة لذلك يتسرب هذا التذمر إلي الأبناء, أو أن الأم تتحدث بطريقة يوجد بها شئ من عدم القبول والرضا, وتكون النتيجة أن هذا الإحساس يتسرب إلي أولادنا وإلي بناتنا. فالرضا هو أسلوب حياة يجب أن نحياه ونمارسه.
ثالثا: علامة النجاح
إن الجانب الثالث في حياة الرضا, أنها علامة نجاح, فالإنسان الراضي دائما ناجح في حياته, ولكننا لا نقصد بالإنسان الراضي هنا, أنه الإنسان المستكين السلبي في حياته, بل هو الإنسان الإيجابي الذي يعمل.. يذاكر.. يتعب.. يخدم.. إلخ, وكما يقول المزمور: طوبي للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار, وفي طريق الخطاة لم يقف, وفي مجلس المستهزئين لم يجلس, لكن في ناموس الرب مسرته, وفي ناموسه يلهج نهارا وليلا. فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه, التي تعطي ثمرها في أوانه, وورقها لا يذبل. وكل ما يصنعه ينجح (مز1:1-3).
إن الإنسان الراضي إن وضع يده في أي عمل ينجح.. ففي الخدمة ينجح.. في مشروع أسرة ينجح.. في مشروع اقتصادي ينجح ويكبر.. في التكريس ينجح ويكبر وهكذا.. فالإنسان الراضي تجمعه هذه الجوانب الثلاثة: طبيعة شخصية, وأسلوب حياة يتدرب عليه خطوة خطوة, وعلامة نجاح, فهو إنسان ينجح في كل ما تمتد إليه يداه من عمل.
إن الإحساس بالرضا يبدأ بمعرفة أن الله هو كل ما نحتاج إليه, لذلك فالكتاب الذي قام بوضعه المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث الله وكفي يعتبر من أعظم الكتب التي كتبها قداسته, لأنه يعبر عن اختبار روحي صميم لحياة الرضا.
إن الإحساس بالرضا يبدأ حينما نعرف أن كل ما نحتاج إليه, هو مشخص في حضور الله, ولذلك ما أسعد وما أبهج الإنسان الذي يمتلئ قلبه بالله, وكما يقول معلمنا بولس الرسول: كونوا مكتفين بما عندكم, لأنه قال: لا أهملك ولا أتركك (عب13:5).
رابعا: حياة الاكتفاء
يوجد جانب آخر من جوانب حياة الرضا, وهو أنها حياة اكتفاء, ولعل هذا من أصعب دروس الحياة, فالذي يجب أن يتعلمه الإنسان, هو أن يكون مكتفيا بما هو فيه, وإذا استطاع الإنسان أن يصير مكتفيا, يكون قد وصل إلي قمة الحياة الروحية.
ومن أمثلة الذين سقطوا في الخطية بسبب عدم الاكتفاء هما أبوانا الأولان: آدم وحواء, فقد خلق الله لهما المسكونة كلها فخلق النور.. والكواكب.. والشمس والمملكة النباتية.. والمملكة الحيوانية.. إلخ, وجهز الحياة بأفضل ما تكون, ثم قال لأبينا آدم تفضل كملك لمملكتك, وكتاج للخليقة كلها, ثم أراد الله أن يكمل سعادة أبينا آدم, ويشعره بإنسانيته, فأوجد معه حواء ككائن عاقل يتحاور معه.
وهنا نسأل أبانا آدم هل ينقصك شئ؟! ويجيب أبونا: لا شئ ينقصني علي الإطلاق, فقد خلق الله كل هذه المسكونة من أجلي, وكل هذه الحيوانات, وجعلني أنا الذي أعطيها أسماءها, وأيضا جعلني أتحدث معه في كل يوم, فما أمتع هذا الفردوس! ولكن ينقصني شئ واحد إن الله قال لي: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا, وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها, لأنك يوم تأكل منها موتا تموت (تك2:16-17).
وكان هذا اختبارا إيمانيا بسيطا جدا, لكي ما يختبر آدم نفسه هل قد صار مكتفيا أم لا؟ ولكن للأسف فشل أبونا آدم في هذا الاختبار البسيط وسقط, رغم أن العقوبة كانت واضحة موتا تموت, وسقطت أيضا أمنا حواء وطردهما الله من جنة عدن.
ومن هنا نري أن قصة سقوط الخليقة بدأت بعدم الرضا, ولذلك فإن حياة الخطية عامة تبدأ بعدم الرضا.
ونذكر علي سبيل المثال أيضا قصة: الابن الضال, فقد كان إنسانا مكرما في بيت أبيه, ولكنه تسرب إليه شعور بعدم الاكتفاء والرضا في حياته, وبدأ يري خارج بيت أبيه ما يبهره, ويلفت أنظاره, ويجعله يشعر بعدم الاكتفاء! ونحن نعلم جميعا تفاصيل قصة الابن الضال.
لذلك قال سليمان الحكيم: النفس الشبعانة تدوس العسل, وللنفس الجائعة كل مر حلو (أم27:7). إن هذا الشبع صورته هو حياة الرضا, فما أسعد الراهب الذي يجلس في ديره وهو راض, وكذلك ما أسعد كل من الكاهن.. الراهب.. الأسقف.. الزوج.. الزوجة.. الخطيب.. الخطيبة.. الابن.. الابنة.. الصغير.. الكبير.. إلخ, الذي يكون راضيا, وفرحا بحياته. بالسعادة كل إنسان يعيش راضيا.
إن القلب البشري مهما وضع فيه لن يمتلئ, كما قال أحد الفلاسفة: إن الإنسان بئر من الرغبات, فالإنسان يريد بصفة مستمرة, لذلك يقول معلمنا بولس الرسول: قد تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه (في4:11), لأنه قد تعلم هذا الدرس وأيقنه من أبينا آدم, وأيضا قد تعلمته أمنا العذراء مريم, ولذلك تسمي: حواءنا الجديدة.
تحكي قصة لطيفة عن شجرة عيد الميلاد, أنها ذات يوم تذمرت علي شكلها, وذهبت إلي السيد المسيح, وقالت له: كيف تكون شجرة عيد الميلاد الخاصة بك ورقها صغير هكذا؟ وسألها السيد المسيح عن رغبتها, فقالن: أريد أن يكون ورقي من الذهب!
وفعل لها السيد المسيح ما أرادت, ولكن في المساء أتي إليها لصوص, وسرقوا أوراقها, فذهبت متذمرة إلي السيد المسيح, وطلبت منه أن تكون أوراقها من الزجاج. وأيضا أجاب السيد المسيح لها طلبها, ولكن في الليل هبت عاصفة شديدة أدت إلي تكسير هذه الأوراق الزجاجية.
فتذمرت مرة أخري, وذهبت إلي السيد المسيح, وقالت له أريد أن تكون أوراقي الخضراء كبيرة وعريضة, وأجاب لها الرب طلبها هذه المرة أيضا, فمرت بالشجرة مجموعة من الخراف وأكلت الأوراق! وفي النهاية عادت الشجرة إلي السيد المسيح وقالت له أريد أن أعود كما صنعتني! فلا يوجد لصوص يسرقونني, ولا عاصفة تكسر أوراقي, ولا خراف تأكلني, وهكذا أظل شجرة خضراء جميلة.