حياة الرضا
ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين, ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان
(2كو2:14)
صفات حياة الرضا
إن الإنسان الذي يتذمر دائما ما يخسر, لذلك فإن حياة الرضا لها أربع صفات رئيسية: أولا أن يكون الإنسان راضيا بالاختيار والقرار المصيري, ثانيا أن يكون راضيا بالخدمة والمسئولية, ثالثا أن يكون راضيا بالآخر, رابعا أن يكون راضيا بالظروف والبيئة.
أولا: الرضا بالاختيار
إن أول صفة من صفات حياة الرضا, هو أن يرضي الإنسان بالاختيار والقرار المصيري, الذي قد اختاره لنفسه, فالاختيار حرية ومسئولية, مثال لذلك إنسان اختار طريق الزواج, واختار إنسانة معينة, وسمح الله أن يربط بينهما بسر الزيجة المقدس, فهنا يجب عليه أن يجتهد ويحاول أن ينجح هذه الزيجة.
وأيضا هو أو هي اختاروا طريق التكريس, أو طريق الخدمة بأي صورة من الصور, فيجب أن يجتهدوا ويحاولوا أن ينجحوا في هذا الطريق الذي اختاروه لأنفسهم.
فعندما تكون راضيا ستكون ناجحا, والكتاب يقول: ليس أحد يضع يده علي المحراث وينظر إلي الوراء يصلح لملكوت الله (لو 9: 62), ولكن يجب علي الإنسان أن ينتبه إلي حرب التشكيك, فمن الممكن أن يحاربه عدو الخير بحرب التشكيك.
مثال لذلك, من الممكن أن يقول له: إن اختيارك كان خاطئا وغير صحيح, أو أن الطريق الذي تسير فيه غير سليم, وإن كنت قد اخترت طريقا آخر لكنت أكثر نجاحا, وهنا يبدأ عدو الخير حربه ضد هذا الإنسان, ويظل يلقي بالشك في قلبه, من جهة طريقه حتي يتمكن منه, ويوقعه أخيرا.
والكتاب المقدس مليء بالأمثلة, منها: قصة راعوث المؤابية والتي وردت قصتها في سفر راعوث, ومعني كلمة راعوث هي جميلة, وهو اسم من الأسماء الجميلة الذي نسمي بها بناتنا, فراعوث المؤابية قد تعرضت لآلام شديدة جدا, فقد تغربت عن بلادها, ومات زوجها, وأخو زوجها وحموها, ولم يكن معها أحد, فقد كانت غريبة ولم يكن لها ولد.
وبالرغم من كل هذا كانت راضية, وعندما نقرأ سفرها نشعر بكم كانت هي راضية, ولذلك باركها الله, وصارت مذكورة في سلسلة أنساب السيد المسيح, وفي نسب داود النبي فهي مثال لإنسانة راضية بمصيرها.
ونسمع أيضا عن والدة القديس يوحنا الذهبي الفم: وكانت تدعي أنثوثا, وكانت فتاة جميلة, وإنسانة فاضلة وقد تزوجت, وأنجبت ابنة, وابن هو القديس يوحنا الذهبي الفم, ثم مات زوجها في الحرب بعد فترة صغيرة من زواجهما, ثم بعد حوالي عام آخر ماتت ابنتها أيضا بسبب المرض, وقد عرض عليها الزواج من رجال كثيرين, لكنها كانت قد أخذت قرارا, وهي أن تعيش لتربية ابنها الوحيد, وكانت راضية بنصيبها.
ثم بعد فترة كبر ابنها, وطلب منها الذهاب إلي الدير لكي يصير راهبا, فقالت له: يا ابني لا ترملني مرة ثانية, فيمكن أن تعيش حياة الرهبنة معي هنا في هذا المنزل, ثم بعد رحيلي اذهب إلي الدير, وقد أطاع الابن هذا الأمر, وأصبح بعد ذلك القديس العظيم يوحنا ذهبي الفم, فأول صفة من صفات حياة الرضا هي: الرضا بالاختيار والقرار المصيري.
ثانيا: الرضا بالخدمة والمسئولية
الصفة الثانية من صفات حياة الرضا هي: الرضا بالخدمة والمسئولية, فأحيانا يقارن الإنسان نفسه بالآخر, وهنا يبدأ في التذمر, فقد أعطي الله لكل إنسان وزنات علي قدر طاقته, فلا تقارن نفسك بآخر.
مثال لذلك, ما ورد في مثل الوزنات الذي ورد في الكتاب المقدس: فأعطي واحدا خمس وزنات, وآخر وزنتين, وآخر وزنة, كل واحد علي قدر طاقته, وسافر للوقت, فمضي الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها, فربح خمس وزنات أخر, وهكذا الذي أخذ الوزنتين.. وأما الذي أخذ الوزنة فمضي وحفر في الأرض وأخفي فضة سيده.. أتي سيد أولئك العبيد وحاسبهم, فجاء الذي أخذ الخمس وزنات وقدم خمس وزنات أخر.. فقال له سيده: نعما أيها العبد الصالح والأمين! كنت أمينا في القليل فأقيمك علي الكثير, ادخل إلي فرح سيدك, ثم جاء الذي أخذ الوزنتين وقال: يا سيد, وزنتين سلمتني, هوذا وزنتان أخريان ربحتهما فوقهما, قال له سيده: نعما أيها العبد الصالح الأمين! كنت أمينا في القليل فأقيمك علي الكثير, ادخل إلي فرح سيدك, ثم جاء أيضا الذي أخذ الوزنة الواحدة وقال: يا سيد, عرفت أنك إنسان قاس.. فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض.. فأجاب سيده وقال له: أيها العبد الشرير والكسلان.. فخذوا منه الوزنة وأعطوها للذي له العشر وزنات (مت 25: 15-28).
وهنا نجد أن الذي أخذ الخمس وزنات تاجر وربح خمس وزنات أخر, فكانت نسبة ربحه مائة في المائة, والذي أخذ الوزنتين لم يقف أمام الله ليسأله لماذا أعطيتني وزنتين, وأعطيت أخي خمس وزنات؟! ماذا يفرق أخي عني؟!
ولكنه أخذ الوزنتين, واجتهد فيهما, وحقق نفس النسبة مائة في المائة, أما الذي أخذ وزنة واحدة, فقد ظن ظنا خاطئا في صاحب الوزنات, وطمرها في التراب, وأراد أن يجد مبررا لكسله, وإضاعة وقته, وكانت النتيجة أن صاحب الوزنات أخذ منه هذه الوزنة, وأمر أن تعطي لصاحب العشر وزنات, لأنه كان إنسانا مهملا وكسلانا, فإحدي صفات حياة الرضا, أن الإنسان يكون راضيا بالخدمة والمسئولية, وكما يقول الكتاب: كل الأشياء تعمل معا للخير (رؤ 8: 28).
ونذكر علي سبيل المثال, إنه قد تختار إحدي الكنائس خادما شابا أمينا من أولادها, لكي يرسم كاهنا لله, وبعد رسامته بما يقرب من عامين أو ثلاثة, نجد أن خدمته بدأت في الضعف رويدا رويدا, وبعد فترة أخري بدأ في حياة التذمر, وذلك لأنه لم يحسب حساب النفقة جيدا, وبدأ في مقارنة نفسه بآخرين من نفس عمره, سواء كانوا من الكهنة أو زملائه في الدراسة أو الخدمة, وبعد هذه المقارنة, يبدأ يقع في خطية التذمر, وعدم الرضا.
والسيد المسيح ينظر إليه معاتبا, ويقول له: أعطيتك نعما كثيرة جدا وكبيرة, فقد أعطيتك نعمة الكهنوت, ونعمة ائتمانك علي أسرار الناس وخدمتهم, والصلاة من أجلهم, وعملت علي يديك نعما ومعجزات كثيرة, فلماذا التذمر؟! وهنا يضيع منه الكثير من البركات التي أعطاها له الله.
وهناك إنسان آخر يدخل في عمل من الأعمال ولكنه لا يستمر أكثر من شهرين, ويبدأ في التذمر, ثم يترك العمل ويذهب إلي عمل آخر, وأيضا يستمر فيه ليس أكثر من شهرين أو ثلاثة, ثم يتركه أيضا وهكذا..!!
فهذا الإنسان لا ينجح في حياته, وتقول اختبارات الآباء في البرية: كثير التنقل قليل الثمر, مثلما توضع زرعة, وقبل أن تنبت يتم نقلها إلي أرض أخري, وهكذا إذا تكرر هذا الأمر لا يمكن أن تأتي هذه الشجرة بأي ثمر. فعلي الإنسان أن يثبت ويعلم أن الله يرسم له خطة حياته بكل دقة.
ثالثا: الرضا بالآخر
إن الصفة الثالثة من حياة الرضا هي: الرضا بالآخر, بمعني أن يكون الإنسان راضيا بمن معه, وهذه ربما تكون في الزواج باعتبار أن إنسانا يرتبط بإنسانة, أو من الممكن أن تكون في العمل باعتبار أن الآخر هو الزميل أو الشريك في العمل, أو في مشروع تجاري مثلا, وربما تكون في الخدمة ويقول الكتاب: اثنان خير من واحد, لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة, لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه (جا 4: 9-10).
إن كل إنسان في العالم خلقه الله لدور متميز ولمسئولية محددة, فالله لم يخلق إنسانا في العالم كله بلا مسئولية أو دور, فهناك شخص يسمي Troublemaker بمعني أنه إنسان يختلق المشاكل مع من حوله, ولا يستطيع أن يجد راحته مع أحد, وهناك شخص آخر يسمي Peacemaker أي صانع سلام, ومثل هذا الإنسان يتمني أي شخص أن يعمل أو يخدم معه.
ومن أسباب عدم راحة شخص مع من حوله أو انغلاق قلبه من الآخر, هو قلة المحبة وعدم قبول الآخر, فالرضا بالزميل أو بالشريك من الممكن أن يكون أيضا في حياة التكريس, مثال لذلك ما ورد في رسالة فيلبي حيث تحدث القديس بولس الرسول عن أختين كانتا تقومان بالخدمة معا, وحدث بينهما خلاف في الفكر فأرسل إليهما بولس هذه الآيات: اطلب إلي أفودية وأطلب إلي سنتيخي أن تفتكرا فكرا واحدا في الرب, نعم أسألك أنت أيضا, يا شريكي المخلص, ساعد هاتين اللتين جاهدتا معي في الإنجيل, مع أكليمندس أيضا وباقي العاملين معي, الذين أسماؤهم في سفر الحياة (في 4: 2, 3).
فبالرغم من أنهما اختلفتا, لكن معلمنا بولس الرسول أراد أن يرضي الأختين بعبارة لطيفة, ويعطي لهما لقبا رائعا فقال: اللتين جاهدتا معي في الإنجيل, بمعني أن جهادهما ومشاركتهما معه في الخدمة, كانت من أهم أسباب نجاح خدمته وكرازته بالإنجيل.
وعلي سبيل المثال, لحياة الرضا نذكر هنا هذه القصة الواقعية, فهذه القصة لأسرة صغيرة تتكون من زوجة وزوج وابن معاق ذهنيا, وهذه الأسرة المباركة بدلا من أن تتذمر علي الله بسبب هذه العطية أي الابن المعاق, فكروا فكرا إيجابيا, وهو أن يكرسوا حياتهم لخدمة الأسر التي أعطاها الله أولادا بهذه الصورة.
وبالفعل قاموا بإنشاء جمعية وخدمات, ومكان علي هيئة بيت لطيف يقومون فيه باستضافة مثل هذه الحالات, كما قاموا أيضا باستدعاء بعض الأطباء, ومخاطبة بعض الهيئات المختصة في الخارج, لكي يتواصلوا لعلاج بعض هذه الحالات, وبذلك حولوا العطية التي أعطاها لهم الله والتي كانت من الممكن أن تكون سببا لتذمرهم, إلي عمل إيجابي خدموا به أنفسهم والآخرين.