حياة الرضا
ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين, ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان
(2كو2:14)
تمهيد:
يقول معلمنا بولس الرسول: إني فرحت بالرب جدا لأنكم الآن قد أزهر أيضا مرة اعتناؤكم بي الذي كنتم تعتنونه, ولكن لم تكن لكم فرصة. ليس أني أقول من جهة احتياج, فإني قد تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه. أعرف أن أتضع وأعرف أيضا أن أستفضل. في كل شئ وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع, وأن أستفضل وأن أنقص, أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني (في4:10-13).
إن أمنا العذراء مريم هي كنز من الفضائل, ومهما تحدثنا عنها, وعن شخصيتها, وعن حياتها وفضائلها, لن نوفيها حقها, فأمنا العذراء مريم هي التي نتشفع بها, وكما نقول في تسبيحنا وصلواتنا: إنها فخر جنسنا, وعندما نذكر فضائلها نجدها عديدة جدا, وسنتكلم هنا عن أحد هذه الفضائل القوية, والتي نحتاج إليها في هذا الزمان وهي فضيلة حياة الرضا.
إننا نلاحظ في زماننا هذا, وعلي جميع المستويات الفردي.. والأسري.. وعلي مستوي المجتمع.. وعلي مستوي الوطن.. وعلي مستوي العالم ككل, أن حياة التذمر تتسع وتزداد جدا, ولكن عندما نتأمل حياة أمنا العذراء مريم, نتذكر كيف أنها كانت إنسانة راضية وناجحة.
فقد نجد في بعض الأحيان أشخاصا يكون لديهم كل شئ, بل وأحيانا لديهم أكثر مما يحتاجون إليه, ومع ذلك لا يشعرون بالرضا والفرح, والأكثر من ذلك أننا نجدهم يتذمرون علي حياتهم, وذلك بالرغم من نعم الله الكثيرة جدا لهم, ولذلك يقول معلمنا بولس الرسول: قد تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه (في4:11).
إن هذا التذمر قد يحدث في جميع المستويات, بمعني أنه قد يصيب الإنسان المكرس بأي صورة من الصور, وقد يصيب الإنسان الذي يعيش في أسرة بها زوج وزوجة وأبناء وبنات, وقد يصيب الإنسان الذي يعيش بمفرده, وقد يصيب الإنسان الذي يعيش في مجتمعنا هذا أو خارجه في أي بلد آخر.
إننا عندما نتأمل هذه الآية الجميلة التي ذكرها معلمنا بولس الرسول, والتي تقول: قد تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه (في4:11), يجب أن نتذكر أن القديس بولس الرسول كتب رسالته إلي أهل فيلبي وهو في السجن أي وهو في قمة الألم, وقرية فيلبي هي قرية صغيرة وفقيرة, وتعتبر أول قرية في أوروبا نالت نعمة الإيمان بالسيد المسيح.
وفي أثناء وجود القديس بولس الرسول في روما حيث سجن هناك لمدة عامين, حضر إليه بعض من أولاده من قرية فيلبي, وذلك للاطمئنان عليه, وتقديم له بعض العطايا القليلة التي قد جمعوها, لأنه لم يكن لديه إمكانية العمل, كما كان يعمل سابقا في صناعة الخيام, وذلك لوجوده في السجن, وقد قبل معلمنا بولس الرسول عطاياهم بسرور, وذكر هذه الآية الجميلة التي تعبر عن حياة الرضا.
معني الرضا:
إن الرضا هو شعور إيماني وإيجابي, فالإنسان الذي يشعر بالرضا في حياته, ليس هو شخصا سلبيا يقول: ليس في الإمكان أفضل مما كان, ولكنه شخص إيجابي ومجتهد, وأيضا الرضا هو شعور لقلب هادئ ونفس هادئة.
وهذه التركيبة التي تجمع الشعور الإيماني والإيجابي والهادئ في الإنسان تعبر عن قبول هذه الحياة التي يقدمها الله لنا.. الحياة التي يقدمها الله لكل شخص فينا.. وتعبر أيضا عن فرح الإنسان بكل ما يقدمه الله له.
إن أهم ما في حياة الرضا هو الإحساس الدائم بالحضرة الإلهية, بمعني أن يكون الله حاضرا, والإنسان ينظر.. في كل عمل.. في كل مقابلة.. في كل كلمة.. في كل جلسة.. إلخ, ينظر يد الله هي التي تعمل ويشكر الرب مهما كان الحدث صغيرا.
إن الإنسان الراضي, دائما يكون لديه إحساس أن الله هو الذي يدبر هذا الكون, وليس أن الله اكتفي بخلق الكون وتركه, ولكنه يكون متأكدا أن الله مازال يرعي هذا الكون, وقد ذكر معلمنا داود النبي هذا الاختبار عندما قال: جعلت الرب أمامي في كل حين, لأنه عن يميني فلا أتزعزع (مز16:8).
جوانب حياة الرضا
عندما نتكلم عن حياة الرضا بأكثر تفصيل, نجد في فضيلة الرضا التي تمتعت بها أمنا العذراء, والتي يجب أن نعيشها ونمارسها جميعا, أربعة جوانب أساسية, وهي: أولا إن فضيلة الرضا طبيعة شخصية, وثانيا أسلوب حياة, وثالثا علامة نجاح, ورابعا حياة اكتفاء. وسنتكلم بالتفصيل عن كل جانب من هذه الجوانب.
أولا: طبيعة شخصية:
إن أول جانب من جوانب حياة الرضا في الإنسان أنها طبيعة شخصية, وقد تكونت في الإنسان من خلال تنشئته وتربيته وتكوينه, فمن أحد أهم الفضائل التي يجب أن نزرعها في الطفل الصغير بطريقة مباشرة, أو غير مباشرة هي فضيلة الرضا, بمعني كيف يكون راضيا.
نحن نسمع كثيرا من الشكاوي من الآباء والأمهات أن أبناءهم لا يشعرون بالرضا عن كل ما حولهم في حياتهم. مثال لذلك: عندما يقدم الآباء بعض الهدايا لأبنائهم في مناسبات مختلفة, مثل نجاحهم في الدراسة, يكون رد فعل الأبناء, هو عدم الرضا عن هذه الهدايا باعتبارها هدايا بسيطة ولا تناسبهم!
وقد نسمع أحيانا أن طفلا صغيرا عمره لا يتعدي اثني عشر عاما, عندما يسأله والده عن نوع الهدية التي يريدها بمناسبة نجاحه مثلا, تكون إجابة هذا الطفل الصغير أن هدية نجاحه لا يجب ألا تقل عن سيارة, وهنا نتعجب! كيف يفكر هذا الطفل الصغير بهذه الطريقة؟ مع العلم أنه لو أحضر له والده أي هدية أخري من الهدايا المعتادة, التي تقدم في مثل هذه المناسبات, يكون الطفل غير راض وغير فرح بهذه الهدية.
وهنا يتذكر الآباء أنه عندما كانت تأتي إليهم بعض الهدايا بمناسبة نجاحهم مثلا, كانت فرحة هذه الهدايا تستمر وقتا طويلا, مهما كانت هذه الهدايا بسيطة وغير ثمينة.
لذلك فإن أول جانب من جوانب حياة الرضا هو طبيعة الشخصية بمعني الطبيعة التي نكتسبها, ونأخذها من خلال تكويننا في مراحل حياتنا المختلفة, ونذكر هنا علي سبيل المثال هذه القصة الواقعية.
إنني في إحدي المرات أحضرت مجموعة من الأطفال الصغار في المرحلة الابتدائية من أحد أحياء القاهرة الراقية, وأرسلتهم لخدمة أطفال في نفس أعمارهم لإحدي القري الفقيرة جدا, وبعد فترة صغيرة قابلت إحدي أمهات أطفال الحي الراقي, وفوجئت أنها تقدم لي الشكر علي ما قدمته لأولادها من خدمة عظيمة! فسألت ما هي هذه الخدمة العظيمة؟!
إن كل ما فعلناه مع أولادها, إننا قد قمنا باستضافتهم أياما قليلة, في إحدي القري الفقيرة جدا!! فأجابت أن أولادها كانوا لا يقبلون أي شئ يقدم لهم, ودائما في حالة من التذمر علي كل شئ, ولكن بعد زيارتهم لأطفال في مثل أعمارهم ولكن في بيئات فقيرة جدا ومحرومة, بدأوا يشعرون أنهم يمتلكون كنوزا كثيرة جدا, بينما غيرهم من الأطفال الذين في مثل أعمارهم, في حالة من الحرمان والفقر, لذلك بدأت تتغير مشاعرهم, وبدأوا يشعرون بالرضا الكامل عن حياتهم.
لذلك يجب علينا أن نربي أولادنا بهذا الأسلوب, الذي يجعلهم يشعرون بالرضا, والفرح في حياتهم.