كنا قد تحدثنا في ” المقـال الأول ” من سلسلة المقالات ، عن ظروف ولادة الطفـل يوحنا، وبشارة الملاك لزكرياوالده رغم أن زوجته عقيمه وإنها كانت طاعنة في السن وهو شيخاً كبيراً، وكانت البشارة تقول علي لسان الملاك ”غير المستطاع عن الناس مستطاع عن الله” وأن ذلك يكون فرح وابتهاج لكثيرين بهذه الولادة المباركة .
كما تحدثنا أيضاً– إنه بعد بشارة” يوحنا المعمدان” بستة أشهر عاد رئيس الملائكة جبرائيل– وبشر سيدتنا كلنا السيدة العذراء مريم بالحبل الإلهي وأن كانت الطريقة تختلف. وعندما سمعت العذراء بأن اليصابات حامل في شهرها السادس، أدركت أن عليها واجب تفرضه المحبة تجاه زوجة الكاهن الذي كان يرعاها حين كانت في الهيكل –تأهبت العذراء وأسرعت لتذهب إلى اليصابات حيث كانت أسرة زكريا تعيش في مدينة (عين كارم) والتي كانت تبعد عن ”الناصرة” موطن السيدة العذراء بعشرات الكيلومترات ، وبقيت في منزل أليصابات نحو ثلاثة أشهر .
أما في الحلقة الثانية:
لا شك أن أليصابات كانت إنسانه باره– وقد شهد لها ولزوجها الكتاب المقدس ويقول الكتاب أيضاً في هذا السياق أنه عندما سمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أنعم عليها فرحوا معها، وهذا بلا شك نتيجة معاملاتها الطيبة معهم ،وأن برها كان براً عملياً في خدمة جميع من هم على صله بها، وخاصة أننا نتكلم عن زوجين محبين متفاهمين يعيشان بقداسة في خوف الله .
ولما كان الطفل يسمي بعد ولادته بأسبوع في اليوم الذي يختتن فيه، وكان الختان يتم وفقاً للأمر الإلهي الذي ورد في سفر التكوين، كما كان التقليد العام أن يسمى المولود باسم أحد المشاهير في العائلة أو أحد كبارها، لذلك كان غريباً في أعين الناس أن تصر أمه على أن يكون اسمه ”يوحنا”– حيث عندما حل وقت الختان أرادوا تسميته (زكريا) – على أسم والده، أما والدته التي امتلأت من الروح القدس فقالت ”يوحنا” وزكريا نفسه إذ طلب لوح من الشمع وكتب الاسم ”يوحنا” دون اتفاق سابق مع زوجته، حيث قال الكتاب ” ثم أومئوا إلي أبيه ماذا تريد أن يسمى ، فطلب لوحاً وكتب
” اسمه يوحنا ” . فتعجب الجميع !! وكان سبب التعجب هذا أنهم رأوا إتحاد الإرادة بين كل من اليصاباتوزكريا في تسميه الطفل ”يوحنا” حيث أن بميلاده فعلاً ينطق الأخرس والأصم .
يذكر الكتاب المقدس– أن زكريا امتلأ من الروح القدس وتنبأ قائلاً : ”مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعه ، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاة .. ) ” لوقا :67 – 75 ” الآية الأولى .
ويقول العلامة أوريجانوس: عندما امتلأ زكريا من الروح القدس تنبأ نبوءتين عامتين، الأولى خاصة بالمسيح، أما الثانية خصة بيوحنا المعمدان وظهوره في الآيات التي تقول: “وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمعرفة خطاياهم” ( لو 1 : 76 – 79 ) الآية الثانية وإذ خاطب زكريا ابنه كما سبق في الآية الثانية، كان يعني أن أبنه هو الذي تحدث عنه أشعياء النبي في نبوءته” صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر لإلهنا– فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر” ( أشعياء 40 : 3 – 5 ) .
ثم يذكر القديس لوقا الانجيلي: ” أما الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح وكان في البراري إلي يوم ظهوره لإسرائيل ” ( لوقا 1 : 80 ) .
كان يوحنا المعمدان وهو بعد طفلاً من بين الأطفال الذي أمر الملك هيرودس الكبير بقتلهم، هؤلاء الأطفال الذين كانوا مناهزين لعمر الطفل الإلهي يسوع– من أبن سنتين فما أقل– وفقاً للزمان الذي تحققه من المجوس الذين قد جاءوا يسألون عن ذلك الطفل الذين جاءوا ليتفحصوا– حتى يقتلوه والذي ينطبق عليهم أمر القتل الذي أصدره هيرودس.
ويروي لنا التقليد– أن الجند حين جاءوا ليقتلوه في بيت أبيه زكريا، احتضنه أبوه بين يديه وقال للجند ” سأسلمه إليك من المكان الذي أخذته منه”– ثم جري نحو الهيكل حاملاً أبنه، والجند يجرون من خلفه، فلما بلغ إلي الهيكل أمسك بقرون المذبح وأخذ يصرخ إلى الرب إلهه قائلاً: ”أليس هو الإبن الذي أعطيتني إياه في سن الشيخوخة بعد طول جهاد ؟!! أنهم يريدون قتله”– وعند ذلك يروي التقليد أن ملاك الرب خطفه من يد أبيه، ومضى به إلى البرية، فلما لم يجده الجند، قتلوا أباه زكريا بالسيف .
وأما يوحنا فقد ظل في البرية– حتى كبر وصار يافعاً،فصار طعامه جراداً وعسلاً برياً ( متى 3 : 4 )– فإذ جاء يوحنا بإعلان من الله ومعجزة من السماء، لرسالة مقدسة، شاء الله أن يحيا منذ طفولته في البراري استعداداً لهذه الرسالة الذي أرسله الله لأدائها .
كان الله دائم الاتصال به في البرية ليرشده على أداء هذه الرسالة ومما يؤكد على دوام الاتصال، قول يوحنا المعمدان عن السيد المسيح: ”أنا لم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي تري الروح نازلاً ومستقراً عليه، هو الذي سيُعمد بالروح القدس” ( يو 1 : 32 – 33 ) .
بدأ يوحنا بشارته بالتوبة– حيث يقول: ”وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، قائلاً: توبوا لأنه اقترب ملكوت السموات .. ) ( مت 3 : 1 ) .
وهنا نجد أن يوحنا ظهر للشعب وهو في سن الثلاثين– وهي سن بداية الخدمة له ككاهن من نسل هارون، حيث كان الشعب في مذله رهيبة، وكان الرومان يسيطرون على اليهودية حتى في الأمور الدينية– حيث قال الحاكم الروماني رئيس الكهنة (حنان)– وأقام بدلاً منه ” قيافاً ”عوضاً عنه، كي يهيئ الطريق لإسرائيل، كما للرومان لكي يقبلا العضوية في جسد المسيح المقدس، هذا جاء حسب نبوه أشعياء النبي: ”صوتُ صارخٍ في البرية، أعدُّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإِلهنا. كل وطاءٍ يرتفع، وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض، ويصير المعوَجُّ مستقيمًا والعراقيب سهلاً، فيُعلن مجد الرب ويراه كلُّ بشرٍ معًا، لأن فم الرب تكلم” ( أشعياء 40 : 3 – 5 ) .
هذا التشبيه البليغ– معناه أن الرب لا يريد أن يتعامل مع شعب انحطت نفسه وصارت روحه دون المستوى– وحقاً جاء المعمدان وصرخ في المنبطحين علي بطونهم أرضاً لكي يقوموا ويرفعوا الرؤوس فنجاتهم قد اقتربت– والفادي قد أشرقت أنواره . لقد كانت كلماته بلا تنميق بشرى– أو مداهنة لأحد، كأنه أسد يزأر في برية العالم الموحشة التي خلت من الثمر الجيد بفعل الخطيئة وجاء إليه أهل أورشليم واليهودية والأرجاء المحيطة ليقودهم إلي التوبة– فهم يدينون أنفسهم مسرعين لنوال المغفرة – حيث بدون إدانة الإنسان لنفسه لن يتوب أبداً– وبالتالي لن يطلب المغفرة، وبعدم طلبه للمغفرة لن ينالها ولن ينال نعمه الله– وكان الناس ينالون المعمودية معترفين بخطاياهم .
إن إرسالية المعمدان كانت هي التوبة، تماماً كما وصفها ملاخي النبي عندما قال: “أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي بغته إلي هيكل السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به . هكذا يأتي قال رب الجنود ” (ملاخي 3 : 1 ) .
هذه الآيات تتكلم عن المجيئين الأول والثاني للسيد المسيح رب المجد . حيث أنه يأتي يوحنا المعمدان كملاك الله للمجيء الأول، ويأتي إيليا النبي بشخصه في آخر الأيام، وما قبل المجيء الثاني ليحارب الدجال بأن يرد الناس إلي الإيمان الصحيح – وهي التي استعملها القديس مرقس في أنجيله ”هاأنذا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك أمامك”.
كانت معمودية يوحنا رمزاً للمعمودية المسيحية جاء بها يوحنا ليهيئ بها الطريق أمام معمودية العهد الجديد–وعماد المعمدان قائم علي الاعتراف بالخطايا دون قبول نعمة، والموت عن الحياة الخطية دون قيامة، والخطية عند المعمدان هي ترك الله وعدم طاعة وصاياه والتوبة عنده هي العودة إلى (يهوه) والخضوع لوصاياه .
لقد مارس يوحنا المعمودية بأمر إلهي حتى جاء في الكتاب ”الذي أرسلني لأعمد” ( يو 1-23) أن المعمدان أرسله الله لتنبيه الشعب بمجي السيد الذي بواسطته يتم العهد الجديد بين الله والشعب العهد الذي يقوم على الصليب على صلب الابن وسفك دمه كذبيحة كفارة لغفران خطايا الشعب .
وإذا فهمنا ذلك أدركنا بغير أي مجال للشك أن التوبة على يد المعمدان وغفران الخطايا كانت تمهيدية تؤهل الشعب للدخول في مجال عمل الأبن ألكفاري لننال مغفرة الخطايا بالدم. ويعتبر هذا تأهيلاً للدخول في الإيمان بيسوع المسيح بقبول الفداء والخلاص وغفران الخطايا بأكملها التي اقترفها الشعب بكسره ناموس موسى ووصايا الله حيث يقبل الإنسان المؤمن بالمسيح الروح القدس الذي هو روح التجديد للخليقة الجديدة الروح المعدة لقبول ملكوت الله .
يقول بولس الرسول في الرسالة العبرانيين ”فسألهم: بماذا اعتمدتم فقالوا بمعمودية يوحنا– فقال بولس” أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع” (أعمال 19 : 3 – 4 ) أما في الكنيسة، معمودية الماء ومعمودية الروح القدس اتحدا معاً في طقس واحد حتى صارت هي مغفرة الخطايا وهبه الروح القدس متحدة في العماد والأيمان معاً .
وإلى اللقاء_ في المقال الثالث القادم إن شاء الرب وعشنا ([1]).
تابع سلسلة المعمدانيات
المعمدانيات ( 1)