قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (698)
علي مدي العامين السابقين ومنذ تولي دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية تباينت آراء المراقبين السياسيين والمحللين حول استحقاقه لشغل أرفع منصب في العالم وهو قيادة أمريكا من البيت الأبيض, فمشواره خلال حملة الانتخابات الرئاسية كان محل جدل وأدواته في ترويج وتسويق نفسه والتحرش السياسي بمنافسيه كانت ملفتة إن لم تكن غير مسبوقة, وتطاوله علي النظام الانتخابي الأمريكي باتهامه إياه بتزوير الانتخابات لصالح منافسته هيلاري كلينتون لدي ظهور مؤشرات تنبئ بفوزها في سباق الرئاسة كان صادما للكافة ويدل علي الافتقار إلي التوازن السياسي.
كل ذلك لم يمنع ترامب من الوصول إلي البيت الأبيض وحلف اليمين كرئيس للولايات المتحدة خلافا لكل التوقعات, وبينما توقع البعض أن جسامة المسئولية ستدعوه للتخلي عن انفلاته استمر هو في سياسة الاندفاع وتوجيه الصدمات لمؤيديه ومعارضيه علي السواء, وضرب عرض الحائط بجميع ثوابت السياسة الأمريكية, فدخل في حرب شعواء مع الإعلام, وأطاح بمستشاريه الذين لم ينصاعوا لأهوائه واحدا تلو الآخر, واستهان بجميع دراسات وتوصيات معاهد الدراسة ومؤسسات صناعة القرار حتي بات واضحة ومقلقا أن ساكن البيت الأبيض هو ديكتاتور مستبد ومنفلت يحيط نفسه بحزمة من المهللين لأهوائه, شهيته مفتوحة للمعارك والصدامات, يحكم أمريكا عن طريق تغريداته علي تويتر (!!!)… ولا يبالي بذبح كل المثل والقيم التي طالما حكمت السياسة الأمريكية.
وكان من الطبيعي أن ذلك الجموح يمتد خارج أمريكا نفسها, حيث توالت مغامرات ومقامرات ترامب السياسية تصدم العالم ما بين انسحاب أمريكا من الكثير من الاتفاقيات الحاكمة للنظام العالمي, وبين تنصلها من اتفاقيات سياسية جوهرية أبرمتها إدارات أمريكية سابقة لصالح كبح جماح قوي تهدد السلام العالمي… كان مسك الختام الإطاحة بأهم تحالف سياسي واقتصادي وعسكري في العالم منذ الحرب العالمية الثانية بتوجيه ضربات عاصفة لاتفاقية حرية التجارة ولحلف الناتو ولمنظمة اليونسكو… ضربات خدعت الشعب الأمريكي تحت ادعاء أمريكا أولا لكن سرعان ما أفضت إلي كارثة صادمة عندما تحولت إلي أمريكا وحدها بل الأسوأ عندما باتت القوي السياسية العظمي في العالم تتساءل عن جدوي تصديق أمريكا أو الثقة فيها!!!
العجيب أن كل ذلك التردي والذي صاحبته تحذيرات أصوات كثيرة من داخل أمريكا بأن الخسائر رهيبة والانهيار قادم, لم تحرك ساكنا في الشارع الأمريكي الذي لا يهتم إلا بأمرين: المؤشرات الاقتصادية أولا, وعدم كذب الرئيس علي الشعب ثانيا… وبالرغم من تنبيه الخبراء الاقتصاديين بأن الانتعاش الاقتصادي ليس ثمرة سياسات ترامب في هذه الفترة الوجيزة من حكمه, إنما هو نتاج سياسات طويلة انتهجت في عهود إدارات سابقة عليه, إلا أن الشارع لم يبال واقتصرت موجات المعارضة ضده علي جوانب فرعية مثل تخبطه في قرارات الإضرار بالمهاجرين وتصريحاته المناوئة لحقوق الأقليات… أما تطاوله علي الإعلام والقضاء ومؤسسات الدولة تذهب أدراج الرياح!!!
وأخيرا جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير ودخل ترامب المنطقة المحظورة وهي الكذب علي الشعب الأمريكي بالحكمين الصادرين منذ أسبوعين علي اثنين من معاونيه بإدانتها بإخفاء الحقائق وتضليل العدالة فيما يخص حملته الانتخابية وما شابها من تحايل ضريبي وبنكي وانتهاك القوانين الخاصة بالتمويل الانتخابي, علاوة علي ما تبين من فضائح الرشاوي التي دفعت لشراء صمت سيدات ادعين التورط في علاقات غير مشروعة مع ترامب… وهو الأمر الذي دأب ترامب علي نفيه ثم يتضح أنه تم بمعرفته وبموافقته وهنا تكمن تهمة كذبه علي شعبه!!!
هذا التطور الأخير بالرغم من أنه أخف وطأة من ضربات ترامب لحلفائه وللسلام العالمي, إلا أنه في نظر المراقبين بمثابة الضربة القاضية لرئاسته والتي تهدد فعلا بعزله… والدليل علي ذلك ما حملته الأخبار من مؤشرات فقدان ترامب نفسه ومحاميه وكبار معاونيه لتوازنهم حتي باتوا يطلقون التصريحات التي تهدد الشعب الأمريكي -بل وترهبه- مثل: عزل الرئيس سيتسبب في تمرد الشعب الأمريكي وانتفاضته.. ومثل: عزل الرئيس سيؤدي إلي انهيار أسواق المال في الولايات المتحدة والعالم وسيتبعه شيوع الفقر… ومثل تحدث ترامب عن نفسه بكل غرور وصلف ليقول: كيف يمكن عزل رئيس قام بمهمة عظيمة؟… لقد حررت الاقتصاد من الإجراءات المقيدة له وخفضت الضرائب بشكل رائع ونجحت في توفير 48 ألف فرصة عمل!!!
الواضح جليا أن ترامب فقد توازنه لأنه استشعر أن الخناق يضيق عليه بتزايد دلائل الإدانة التي تدعو للمضي في مسار عزله… لكن ماذا تحمل لنا الأيام المقبلة… هذا ما يحبس العالم أنفاسه انتظارا له.