بطرس وبولس
اخترنا لعيد آبائنا الرسل تذكار استشهاد القديسين بطرس وبولس, ولهذين الرسولين مكانة عظية في تاريخ الكنيسة.
أحدهما يسمي رسول الختان أي اليهود, والآخر يسمي رسول الغرلة أي الأمم, وفي ذلك قال القديس بولس: إني أؤتمنت علي إنجيل الغرلة, كما بطرس علي إنجيل الختان (غل2:7).
وكان بطرس يمثل الرسل البسطاء الذين لم يتلقوا جانبا كبيرا من العلم, إذ كان صياد سمك, بينما كان بولس يمثل العلماء المثقفين, إذ تتلمذ عند قدمي غمالائيل, كما اشتهر بقراءة الكتب الكثيرة.
وهذا يرينا أن الرب يستخدم الكل في ملكوته, العلماء والبسطاء علي حد سواء, المهم أن يكونوا أواني صالحة لعمل نعمته.
وكان بطرس واحدا من الاثني عشر, بل لعله ذكر كأول اسم فيهم, بينما بولس لم يكن من الاثني عشر, ولا من السبعين, ولم يتبع المسيح في فترة كرازته علي الأرض, بل قال عن ذلك: وآخر الكل, كأنه للسقط ظهر لي أنا, لأني أصغر الرسل, أنا الذي لست أهلا أن أدعي رسولا لأني اضطهدت كنيسة الله (1كو15:7-9).
ومع أنه كان آخر الكل في دعوته, إلا أنهتعب أكثر من جميعهم (1كو15:10), وهذا يظهر لنا أنه ليس بالأسبقية, إنما بمقدار التعب من أجل الله.
فقد لا يكون إنسان أقدم العاملين في الخدمة, ومع ذلك يكون أقوي العاملين.
يوحنا المعمدان لم يكن أول الأنبياء في العهد القديم, إنما كان آخرهم في الترتيب الزمني, ومع ذلك قيل إنه لم تلد النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان (متي11:11).
أوغسطينوس قال للرب: لقد تأخرت كثيرا في حبك, ومع تأخره كان أعمق من ملايين ممن سبقوه!
إن بولس الرسول كان واحدا ممن وضع الرسل عليهم أيديهم (أع13:3), ومع ذلك سبق كثيرا من الرسل.
إن كان بطرس وبولس قد اختلفا في نوعية الثقافة, وفي موعد الدعوة, وفي أسلوب الخدمة, إلا أنهما اتفقا بلاشك في أمور عديدة.
كانت لكل منهما غيرة كبيرة جدا وثمر وفير في عمل الرب, وكل منهما نال إكليل الشهادة ودخل الملكوت.
وكل منهما كان رجل معجزات, وكان كارزا وخادما للكلمة بكل قوته.
وهذه الصفات تنطبق علي غالبية الرسل إن لم يكن كلهم..
شكرا للآباء الرسل
إننا لا نستطيع أن نقدر مدي فضل هؤلاء الآباء الرسل علينا, الذين اعتبروا أعمدة الكنيسة (غل2:9).
هم الذين سلمونا الإيمان, وسلموه لنا بدمائهم وجهادهم واحتمالهم, وبصمودهم أمام كل العقبات والموانع.
نشكرهم من كل قلوبنا علي هذا الإيمان الذي تسلمناه منهم بسهولة ولكنهم هم تحملوا كل صعوبة لكي يوصلوه إلينا.
ونشكرهم لأنهم سلمونا الإيمان سليما بكل أمانة ودقة..
وفي ذلك يقول القديس بولس الرسول: إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به فليكن أناثيما (غل1:8).
ولهذا يقول الكتاب عن هذا الإيمان: الإيمان المسلم مرة للقديسن (يه3).
لقد كان الرسل هم القنوات النقية التي وصل خلالها الإيمان إلينا.
إنهم أبطال الإيمان ورسل الإيمان والأواني المختارة من الله لهذا الغرض ونحن نشكر من أعماقنا لأنهم:
تعبوا كثيرا لأجلنا
لقد تعبوا وكانوا فرحين في تعبهم, قيل إنهم جلدوا لأجل الشهادة لهذا الإيمان, ثم ألقوهم في السجن وأخرجوهم منه, فماذا كان شعورهم؟ يقول الكتاب:
أما هم فذهبوا فرحين, لأهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا لأجل اسمه (أع5:41).
أما هذه المتاعب فيلخصها القديس بولس الرسول في قوله: بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير, في شدائد, في ضرورات, في ضيقات, في ضربات, في سجون, في اضطرابات, في أتعاب, في أسهار, في أصوام (2كو6:4-5).
ويضيف قائلا: وبمجد وهوان, بصيت رديء, وصيت حسن كمضليين, ونحن صادقون, كمجهولين ونحن معروفون, كمائتين وها نحن نحيا, كحزاني ونحن دائما فرحون (2كو6).. وهكذا نري أن الإيمان لم يصل إلينا بسهولة إنما بأتعاب هؤلاء الآباء الذين حملوا إلينا الإيمان, بأمانة حتي الموت..
كل الرسل ماتوا شهداء, وإن كان يوحنا الرسول لم يمت كذلك, إلا أنه تحمل عذابات أكثر من عذابات شهداء كثيرين..
بولس الرسول كتب بعض رسائله وهو في السجن, ويوحنا كتب رؤياه وهو منفي في جزيرة بطمس, ولذلك قال في مقدمتها: أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره. وكنت في الجزيرة التي تدعي بطمس من أجل كلمة الله (رؤ1:9).
بطرس الرسول مات مصلوبا منكس الرأس, ويوحنا وضع في الزيت المغلي.. وبولس بالإضافة إلي استشهاده, شرح تفاصيل عذاباته في (2كو11), من حيث الأتعاب, والضربات, والسجون, والميتات.. وقال:
من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة, ثلاث مرات ضربت بالعصي. مرة رجمت. ثلاث مرات انكسرت بي السفينة.. بأسفار مرارا كثيرة, بأخطار سيول, بأخطار لصوص, بأخطار من جنسي, بأخطار من الأمم, بأخطار في المدينة, بأخطار في البرية, بأخطار في البحر, بأخطار من إخوة كذبة.. (2كو11).
نعم عن هذا الطريق, نلنا نحن الإيمان, سلمه لنا هؤلاء القديسون في تعب وكد, في جوع وعطش, في برد وعري..
لذلك لا ننسي لهم كل هذا التعب, والله نفسه لا ينسي تعب محبتهم.
لقد مجدتهم الكنيسة بعد استشهادهم ولكنهم في حياتهم عاشوا مذلين..
وكما قال القديس بولس: مكتئبين في كل شئ, لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين, مطروحين لكن غير هالكين, حاملين في الجسد كل حين أمانة الرب يسوع (2كو8-10).
جربوا المحاكمات, والاتهامات الباطلة, والسجون, والنفي, والضرب, والجلد, ولكن آلامهم هذه كانت أكاليل لهم..
لم تكن تخليا من الله, بل كانت فرصة لنوال مجد أكثر. لذلك قال: لكن غير متروكين, ولم يشمت أحد في آلامهم. ولم يعتبرها أحد تخليا من الله, بل مجدوهم في كل ما نالوه من تحقير وإهانات..
ولعل أهم نقطة تمجد الرسل عليها أنهم كانوا مملوئين من الروح القدس.
امتلاؤهم من الروح القدس
كان عمل الروح القدس فيهم هو الشرط الأول لخدمتهم, ولهذا قال لهم الرب: لا تبرحوا أورشليم حتي تلبسوا قوة من الأعالي (لو24:49). وقال لهم أيضا:
ولكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودا (أع1:8).
وهكذا انتظرو وعد الرب, ولم يبدأوا الخدمة إلا بعد أن حل الروح القدس عليهم في يوم الخمسين, وهكذا استطاع بطرس الرسول- بقوة الروح الذي فيه- أن يجذب ثلاثة آلاف إلي الإيمان بعظة واحدة.
إنه درس للذين يخدمون قبل أن يصلوا إلي حياة روحية تساعدهم علي الخدمة.
وكان الروح القدس هو الذي يرشدهم.. وهو الذي يتكلم علي ألسنتم, وهو الذي يحدد لهم المكان الذي يذهبون إليه, وهو الذي يقود مجمعهم المقدس, ولهذا بدأوا أول قرار مجمعي لهم بقولهم.
رأي الروح القدس ونحن (أع15:28).
وهكذا كانت الكنيسة الأولي هي كنيسة الروح القدس, يتولي فيها الروح عمل كل شئ, وما الرسل سوي أوان خزفية في يد الروح.. وكان الروح هو الذي يدعو الرسل للخدمة.. ولعل هذا كان واضحا جدا في دعوة برنابا وشاول إذ يقول الكتاب في هذا عن الآباء الرسل:
وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إيه.. فهذان إذ أرسلا من الروح القدس, انحدرا إلي سلوكيه.. (أع13:2, 4).
وحينما كانوا يقومون بخدمة الكلمة ما كانوا يتكلمون من ذواتهم, إنما ما كان الروح يضعه في أفواههم, هذا كانوا يقولونه للناس, ولعل هذا هو تنفيذ لوعد الرب لهم حينما قال:
تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به لأن لستم أنتم المتكلمين, بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم (مت10:19, 20).
هذ هو سر نجاح الكنيسة بلا شك وهذا هو سر قوة الكلمة وتأثيرها في النفوس, ولهذا قيل عن الكلمة التي يضعها الرب في أفواههم كلمة الله حية وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدين.. (عب4:13).
وهكذا في خدمة آبائنا الرسل يتحدثون عن عمل النعمة فيهم:
عمل النعمة فيهم
كان كل ما عندهم من مقدارات ومن إمكانيات, سببه هو عمل النعمة, وهكذا يقول القديس بولس: ولكن بنعمة الله أنا ما أنا, ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة (1كو15:10), وما أجمل قوله:
ولكن لا أنا, بل نعمة الله التي معي (1كو15:10).
وما أكثر حديث هذا الرسول العظيم عن النعمة, وحديث سفر أعمال الرسل واضح من جهة عمل النعمة من جميع الرسل إذ يقول:
وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم (أع4:33).
مسبحين الله ولهم نعمة لدي جميع الشعب (أع2:47).
وكان اهتمام الرسل بكلمة النعمة كثيرا جدا لدرجة أنهم كانوا يبدأون بها رسائلهم قائلين:
نعمة لكم وسلام (رو1:7).
راجع أيضا غالبية الرسائل مثل (1كو1:3), (2كو1:2), (غل1:3), (أف1:2), (في1:2).
وكانت هذه هي كلمة البركة التي تختم بها الاجتماعات أو الرسائل, قائلين:
نعمة ربنا يسوع المسيح, ومحبة الآب, وشركة الروح القدس مع جميعكم (2كو13:14).
ومما نمجد فيه آباءنا الرسل, القوة والشجاعة والجرأة التي اتصفوا بها.
الجرأة والقوة والشجاعة
هذه الشجاعة التي كانت لهم في القيام برسالتهم, علي الرغم من كل التهديدات والصعوبات والمقاومات التي تعرضوا لها.. وفي مقدمة الأمثلة موقف الرسل, حينما منعهم رئيس كهنة اليهود, فأجابه بطرس بكل شجاعة.
ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس (أع5:29).
هذه الشجاعة التي وقف بها بولس الرسول أمام مجامع اليهود, وأمام ولاة الرومان, حتي أنه حينما تكلم وهو أسير ارتعب فيلكس الوالي (أع24:25).
وحينما وقف أمام أغريباس الملك الروماني, قال له بكل جرأة: أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن (أع26:27).
وبنفس الشجاعة التي كانوا يتكلمون بها هكذا أيضا بكل شجاعة استقبلوا الموت..
وما كانوا يخافون من عذابات ولا من سجون, إنما كانوا أقوياء, وما أجمل تلك العبارة الخالدة المؤثرة التي قالوها:
إن عشنا, فللرب نعيش, وإن متنا فللرب نموت, فإن عشنا, وإن متنا, فللرب نحن (رو14:8).
هؤلاء هم آباؤنا الرسل الذين نعيد لهم, والذين صمنا صوما علي اسمهم لكي نشترك معهم في الصوم, لأنهم كانوا مشهورين بالصوم والصلاة.
الصوم والصلاة في حياتهم
لقد بدأوا خدمتهم بالصوم, وعن هذا قال عنهم الرب: ولكن متي رفع عنهم العريس, فحينئذ يصومون (متي9:15).
ـوقد نصحهم الرب من جهة إخراج الشياطين قائلا: إن هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم (متي17:21).
ولهذا قال القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زملائه في الخدمة:
في أتعاب في أسهار في أصوام (2كو6:5), وقال: في أصوام مرارا كثيرة (2كو11:27).
وفيما كان الرسل يصومون, كلمهم الرسل عن اختيار برنابا وشاول (أع13)..
أما عن الصلاة فقد شرح الكتاب كثيرا من صلواتهم, ودخولهم الهيكل في صلاة الساعة التاسعة (أع3:1).
وقال بطرس الرسول في سيامة الشمامسة السبعة:
أما نحن فنواظب علي الصلاة وخدمة الكلمة (أع6:4).
وبعد, أترانا نستطيع أن نسرد كل فضائل آبائنا الرسل؟ لست أظن هذا وإن حاولنا نحن, فإن هذه الصفحة لا تستطيع.