لا تفكر من الوهلة الأولى أن العنوان طائفي صديقي القارئ، لأن من يعرفني عن قرب، يعرفني أنني علماني حتى النخاع، نعم أنا ابن الطبقة المتوسطة، التي تعلي من شأن الدين، ولكنها تعتبره علاقة خاصة بين الإنسان وربه. عاشرته منذ بدايات عام 2000، وعلاقتي به اقتربت من 18 عاما، منها أكثر من 13 عاما متواصلة، و5 سنوات فرقتنا الغربة، حيث استقريت في كندا، كريزة أمريكا الشمالية. عرفته عندما شرفت بالانضمام إلى جريدة وطني عام 2000.
ومن لا يعرف وطني، فهي جريدة قد تبدو للوهلة الأولي مسيحية، ولكنها جريدة مصرية وطنية، نجحت أن تقدم كفاءات ومهارات لأجيال شابة، أثبتت كفاءتها في الصحف المصرية اليومية والمؤسسات الإقليمية والدولية، وذلك بفضل إيمان المهندس يوسف سيدهم الأب الروحي بكل هؤلاء الشباب، حيث أفسح لهم المجال، وغرس قيم المدنية والوطنية فيهم، مع آخرين أمثال مع حفظ الألقاب الأب والمعلم صفوت عبد الحليم رحمه الله والأستاذ سليمان شفيق متعه الله بالصحة والعافية وعادل الضوي المثقف المستنير.
جريدة وطني وكما شبهتها، ذات مرة مع أصدقائي المقربين في صالة الديسك، أشبه بالزوجة في الأرثوذكسية، قد تذهب وتروح، ولكنك لا تستطيع أن تفترق عنها للأبد.
هذه المقدمة الطويلة، هي مدخلي، لقص عدد من الحكايات عن الأب والمعلم والأستاذ أحمد صفوت عبد الحليم رحمه الله. ولن أقص حكايات مهنية وصحفية، حيث تتلمذنا كثيرون نحن علي يديه. ولكن من يصدق أنني الصحفي “القبطي”، الذي أتقن مهارات اللغة العربية، وأدواتها بفضل هذا العملاق، عم صفوت.
كانت أحلي أوقاتي في الديسك عندما أحضر مبكرا، حيث لم يكن هناك الكثير من الشغل والموضوعات المطلوب تدسيكها. كنت أجلس في المكتب الذي علي يساره، يفتح درج مكتب، ويخرج علبة سجائره LM الزرقاء ويشعل منها سيجارة، ثم يلقي لي بيده سيجارة أخري في وجهي، ويقول لي خد ياد دخن دي خلي الكلام يحلي.
كان يقص عليا الكثير وأنا مستمتع وأتعلم مما يحكي .. يحكي لنا أيام حرب 1973 عندما غطي الأحداث علي الجبهة، شارحا الفارق بين المراسل الحربي والمراسل العسكري. وعندما كان صغيرا، ومات أبيه، كان والده رحمه الله أستاذا “دكتورا” أزهريا، وكان قد توفي وعم صفوت صغيرا، وذهب ذات مره مع والدته رحمها الله إلي شيخ الأزهر لاستعجال معاش والده، وهم عم صفوت بتقبيل يد شيخ الأزهر، وبعد المقابلة نهرته والدته، وطلبت منه ألا يقبل يد أى شخص.
كان عم صفوت يحكي وهو ممتن جدا لوالدته رحمها الله أنها كانت البداية، علمته معني الكرامة وعزة النفس.
كان عم صفوت، إنسان كريما وفاضلا، لحدود لا يستطيع أحد أن يتخيلها. كان كرمه أشبه بالواجب، علي الرغم من أنه يعرف أن كلنا – الحمد لله- ميسورين الحال في الديسك الأستاذ سليمان وعادل الضوي واسحق إبراهيم والعبد لله، إلا أنه كان يصمم دائما أن يشتري لنا معه شندوتشات لنأكل وقت الغذاء، الجميل في الأمر أنه كان يأكل فقط شندوتشين، في حين أن بعضنا وأنا منهم كان يطلب أكثر من شندوتشين. هذا الكرم الطوعي، تحول لسنوات لواجب يقوم به الأستاذ صفوت تجاه العديد منا، حبا منه لنا.
كنت أعرف أنني أضع الكثير من الحدود بيني وبين الآخرين، بحكم نضجي في فرنسا، حيث سافرت وأنا عندي 21 عاما. وكان البعض يعتبره جفاء وحدة. كان عم صفوت يطلب مني أن أكون “حنين” مع الزملاء .. كنت أضحك عندما يطلب مني أن أكون “حنينا”. كان يقوم أحيانا بتعنيفي ويقول لي: ياد بكره تعرف أن الكلمة الحلوة تخلي الصخر يطري والجليد يذوب.
كان أستاذا في فن كسب حب الناس، مع الوقت بدأت أغير من طريقة معاملتي للكثيرين، وهو ما كان يستعذبه مع الوقت عم صفوت في تعاملاتي مع الآخرين، حيث كانت دائرة صداقاتي ضيقة، وأرتاح لأشخاص قليلين، منهم رامي نبيه وجورج أنسي وميلاد إبراهيم ولبيب وبالطبع عمنا وأستاذنا المحبوب أحمد حياتي متعه الله بالعافية وبالطبع صديقي الصدوق ماجد سمير، ومن يسهرون بالليل للانتهاء من اللمسات النهائية للجريدة قبل طبعها، حيث يسود جو عائلي تطيب له نفسي، نكبر فيه الأستاذ أحمد حياتي والأستاذ ميلاد إبراهيم، دون أن ننسي أننا نمثل صلاحيات الديسك في الأمور المهنية الصحفية.
نجح عم صفوت أن يكون الكبير ليس بسنه، ولكنه بسلوكياته ومعاملته الكريمة معنا. كان يحكي لي قبل مواعيد عمل الديسك، أنه يحب أن يصلي صلاة الفجر مع طنط عصمت زوجته. كان يحبها حبا عظيما، ويحكي عن قراراتها ومسؤوليتها الكثيرة كمسؤولة في وزارة النقل والمواصلات.
كانت طنط عصمت تعرفنا كلنا. وعندما كنت أسهر يوم الجمعة، يوم صدور الجريدة مساء الجمعة وفجر السبت، وكنا نحتاج لمشورة عم صفوت في أمر مهم، كان يسعدني سماع صوت طنط عصمت وهو تقول لي: استني يا فلي هخليه يكلمك. كان عم صفوت يحب أن يناديني باسم ياد يا فلي .. أو ياد يا فوللي .. أو يا واد يا فلفل .. لدرجة أنه أصبح معلقا في ذهني اسم فلفل .. ومن وقت للثاني أحب أن أدلع ابني ديفيد فيلوباتير باسم “فلفل” .. وتساءلت كثيرا سامية زوجتي لماذا أدلع ابني بفلفل بدلا من ديف أو فيلو مثلما يفعل باقي أخواته علي اعتبار أن آخر العنقود؟
كان عم صفوت رحمه الله متعمقا في شؤون الدين، ويصلي الفرض بفرضه، كان محبا للجميع، كان إنسانا كريما بمعني الكلمة .. كنت أرى في عم صفوت الله يرحمه والأستاذ عادل الضوي .. والاستاذ أحمد حياتي ربنا يديه الصحة النماذج السوية المحبوبة للمصري المسلم المستنير.
كانت أعشق أن أحكي لعم صفوت عن أحوالي في الشغل، ليس في وطني فقط، ولكنني كنت أعمل في منظمة إقليمية، وعلي الرغم من عملي في المكتب الفني لرئيس المنظمة، والذي كان شخصية عظيمة ومحبة جدا، إلا أنني تعلمت أن الاقتراب من مراكز السلطة الأولي، دائما ما يجلب المشاكل، خاصة ممن يحيطون بك في العمل وتأكلهم الغيرة مثلما تأكل النار الورق.
كان عم صفوت يطلب مني كثيرا أن أدخل لرئيس تحرير الجريدة المهندس يوسف سيدهم المحترم، عندما يكون الديسك لديه تساؤل بشأن قضية أو موضوع ما، وكان يطلب هذا مني أو من اسحق أو يوسف رامز –عندما كان معنا بالديسك- وكان يستهدف من ذلك تقوية علاقة أعضاء الديسك برئيس التحرير المحترم لجريدة وطني.
كان يعاني من متاعب صحية في عموده الفقري، وسافر أكثر من مرة إلي الدانمارك، حيث يعمل ويقيم ابنه الدكتور أكمل صفوت عبد الحليم أحد نوابغ الطب في الدانمارك. كان كثير الحكاوي والحديث عن نجاحات الدكتور أكمل وابنته الدكتورة رغد. كان يشعر بالفخر والسعادة عن الحديث عنهما.
وكان الاستاذ أحمد صفوت عبد الحليم يضفي الكثير من جو المرح عند الحديث عن سفريات الدكتورة رغد عقب عودتها من المؤتمرات الدولية في الغربية، حيث كانت تعمل مع كبريات شركات الأدوية والأجهزة الطبية، ونفس الحال بالنسبة لوضع وبنات الدكتور أكمل وزوجته الفاضلة. كنت أعشق في الأستاذ صفوت حكايات عن أسرته، وعشقه لطنط عصمت، ونجاح الدكتور أكمل والدكتورة رغد.
كان ينصحني دائما بأهمية الاقتناع بحب الزوجة، لأنها الصديق والسند، وعشرة العمر، ولذا من المهم كسب ثقتها، ومشاركتها كل شيء، لأن هذا سيجعل الزوجة تشعل أصابعها العشر شمع لزوجها. كان الوحيد الذي اقبل منه سؤال: عامل ايه ياد مع مراتك .. كنت أعتبره سؤالا أبويا، خاصة وأنني أبن الثقافة الغربية الفرنسية، الذي لا يقبل أن يتدخل أحد في حياته، قد أقبل أن أحكي القليل لأقرب أصدقائي ولكن حياتي الخاصة أمر يخصني. كنت أحب أن أستمع لنصائحه. كان يشعرك بالأمان، لو عرف أي سر عائلي، لا يستغله ضدك، كان أبا بمعني كلمة الثقة والأمان.
عندما كان يصاب بانخفاض معدل السكر في دمه، حيث كان يعاني من مرض السكري، كان يدوخ بعض الشيئ ويطلب مني أن أجلب له من بوفيه الجريدة قليل من السكر ليأكله، كنت أجري بكل قوتي لآخذ بطرمان السكر وأعطيه ملعقة منه. بعدها كان يقول لي أنا آسف ياد يا فلي .. أقوله يا ريس حضرتك آسف علي إيه، إنت تؤمرني أنت أبويا.
أتذكر جيدا، أن الأستاذ صفوت في مرحلة متقدمة من علاقتنا، كنت أحبه جدا، لدرجة أنه كان المسلم الوحيد، الذي قلبت يديه العديد من المرات، بعد أمي رحمها الله، وأبي أطال الله عمره، وبالطبع القس في الكنيسة لاعتبارات دينية. وأتذكر جيدا أن أول مرة قبلت يدي عم صفوت .. قالي ليه كدة ياد .. قبلني علي رأسي. قلت له أنا بجد بحبك يا ريس. كنت أشعر تجاهه بعاطفة جارفة، هو ليس رئيسي في الشغل فقط، ولكنه كان معلمي وأبي الروحي وأستاذي.
مع السلامة يا عم صفوت
وللحكايات بقية.