انتابني الحزن الشديد عندما علمت برحيل أستاذي الجليل أستاذ صفوت عبد الحليم…لم أشعر بمجرد أسي لرحيل أستاذ أو مسئول في عمل بل انتابتني المشاعر برحيل أب ومعلم وشخصية عظيمة تأثرت بها في حياتي الصحفية والإنسانية أيضا.
عرفت أستاذ صفوت عضوا في ديسك التحرير في وطني بعد عملي بالجريدة بعدة سنوات,ثم مديرا لتحرير الجريدة.
رغم غيابه عدة سنوات عن مقر الجريدة بسبب مرضه, إلا أنه ظل حاضرا بيننا بمدرسته الصحفية والفكرية, وظللنا نستشهر بكل ما تعلمناه منه في كل اجتماع تحرير تقريبا. فكلما احتد النقاش حول أسلوب العمل أو آليات أو حتي في نشر أسماء المحررين كنا نقول أستاذ صفوت علمنا كذا.
لم أستطيع أن اذكر اسمه بين زملائي أو حتي بيني وبين نفسي إلا وأقرنه بكلمةأستاذ فأعماقي مليئة المخزون الذي علمني إياه فلا أدعوه إلا أستاذي.
تعلمت منه كتابة المقدمات التي أطلقت عليهامقدمات صفوتية فدعاني إلي مكتبه ذات يوم وقال لي:شوقي يا نادية القارئ معندوش وقت يقرا كتيرا فدايما خلي المقدمة في صميم الموضوع,مش مقدمة إنشائية…ومن يومها وأنا أتبع تلك المدرسة وأعلمها للجيل الجديد من الشباب..
علمني أيضا أن أسعي في أي تحقيق صحفي أن أقابل أعلي مسئول في الجهة أو الهيئة التي قصدتها,وكان يقول:(المسئولين الصغيرين هيتوهوكي) ..علمني أيضا عدمالفزلكة علي القارئ فكان يقولالجريدة تخاطب الأستاذ الجامعي والراجل البسيط علي القهوة فلابد أن يكون الأسلوب راقيا وبسيطا أيضا.
لم يكن مكتفيا بمراجعة الموضوعات وتصحيحها بل كان يدعونا إلي مكتبه شارحا ما قام بتعديله مبسطا لقواعد النحو المعقدة بطريقة لايمكن تدعك تقع في نفس الخطأ مرة أخري….وكلما احترت في إعراب أو في مفردة لغوية اتصل به واستمتع بشرحه السهل الممتنع.
أستاذ صفوت لم يكن مدرسة صحفية, بل أيضا مدرسة في الإنسانيات كان يشيع المرح والبشاشة في كل أرجاء الجريدة بمجرد دخوله وقبل أن يدخل مكتبه يكون قد وزع جرعة غريبة من التفاؤل بين الموجودين في كل المكاتب وكان هاويا أن يطلق اسم (دلع) لكل منا.
أذكر أنه قال لي يوما: مهما كنت مهمومة أو مضغوطة لأي سبب تعالي بكامل أناقتك وابتسمي حتي لو تمثيل فبعد مرور قليل من الوقت سيتحول التمثيل لحقيقة ويتغير مزاجك.
كنت أشعر أن لي معزة مميزة لديه واكتشفت أن السبب في اسمي!! فحفيدته الكبري لابنه الذي يعيش في الدنمارك اسمهانادية وعندما يذكر أحفاده أو زياراتهم في الإجازات يتحول إلي طفل مبتهج ومتهلل, ووصف لي يوما يدعوهيوم الفوضي وهو اليوم الذي يجتمع فيه أحفاده في منزله فيتفق معهم أنهم يخاصمون الشوك والسكاكين بل والملاعق والسفرة ويفترشون الأرض ليأكلون معا كما يتراءي لهم بلا ضوابط!! وكم كانت سعادتهم وسعادته بذلك اليوم وكم كسب من حبهم بسبب تلك الفوضي!!.
رغم أنني لم أقابل أستاذ صفوت بعد أن أصبحت جدة ولي أحفاد إلا أنني دائما أتذكر ما كان يحكيه لنا عن أحفاده وعن نوادرهم ومواقفهم الطريفة ومتعة الأجداد في قضاء وقت معهم فأتخيل أنه شاركني الخبرات.
أستاذ صفوت أول من سمعت منه مصطلحهو من المريخ وهي من الزهرة فقبل سنوات طويلة من الاهتمام المجتمعي بموضوعات المشورة الأسرية دعاني كالمعتاد إلي مكتبه وأخذ يشرح لي الاختلافات النفسية بين الرجل والمرأة التي تسبب المشاكل الزوجية وشرح لي ذلك الكتاب المترجم الذي يتخيل فيه الكاتب أن المرأة جاءت من كوكب الزهرة بعاداته الخاصة والرجل جاء من كوكب المريخ بعاداته المختلفة والتقيا علي كوكب الأرض وتزوجا ونسي كل أن الآخر من كوكب مختلف عنه فثارت المشكلات,وقال ضاحكا: يعني أنت ترجعي م الشغل تقعدي توصفي لجوزك تعبتي أد إيه في يومك وهو ساكت وكل همه يدور لك علي حل مع أنك مش عايزة حلول عايزة إحساس بيكي بس.
وعندما بدأ أستاذ صفوت يكتب لحظة صدق كان بالنسبة لي توثيقا لما حكاه لنا طويلا عن خبراته الإنسانية والمهنية.
كان مبدعا في تعبيراته فأتذكر يوما في أحد الأحداث الطائفية الإرهابية أن نشر عاموده فارغا بعنوان فقطأنا حزين..ولم يكتب كلمة واحدة,فكان أبلغ تعبير عن شجب ماحدث.
كان أيضا من التواضع أن يدعوني وأنا تلميذته ليأخذ رأيي فيما كتبه في عاموده قبل أن يسلمه للطبع,وكان يراقب تفاعلي مع ما أقراه ويفرح جدا بمجرد أن أقول معلقةالله يا أستاذ صفوت حلو قوي ويعقب بأن الإنسان يحتاج إلي كلمة التشجيع طول حياته ومهما تقدمت به السنون.والحقيقة أنه كان حريصا جدا علي التشجيع خاصة مع شباب الصحفيين الذين يأتون من الأقاليم طارقين أبواب الجريدة وفي مرة أعطاني خبرا أراجعه لأحدهم فاستأت وقلت لهلا إملاء ولا نحو ولا صياغة إزاي يعني عايز يبقي صحفي؟!! فقال لي بحنو الإنسان أوعي تكسري نفس حد أنت لا تتخيلي ما تحمله ليأتي القاهرة وكم من آمال علقها عليه أهله…هنعلمه.
العمل في الصحافة دائما مشحون بالشد والجذب وبالتأكيد مرت أوقات اختلفت معه أوزعلت منه لكنها لم تؤثر مطلقا علي الحب والاحترام ومن الدروس العملية من أستاذ صفوت أن الاعتذار لمن هو أصغر لا ينتقص من الكرامة أو المهابة بل يزيدها ويعززها,فمع قامته المهنية الصحفية والعمرية كان لا يستحي أن يقترب ممن في عمر أولاده ليقولأسف.
حقيقي يا أستاذ صفوت لن أنساك وستظل حيا بيننا وسيظل ماورثته لنا مهنيا وإنسانيا أمانة نورثها لمن بعدنا…الآن فهمت حقا أن العظماء لايموتون.