” وأنا أسأل أبي فيهب لكم مؤيّدا آخر يبقى معكم الى الأبد ، رُوحَ الحق الذي لا يستطيعُ العالم أن يتلَقّاه ، لإنه لا يراه ولا يَعرِفُه ” ( يوحنا ١٦ : ١٤- ١٧ ) .
” فامتلأُوا جَميعاً من الرُّوح القُدُس ” ( أعمال الرُسُل ٢ : ٤ ) .
عيد العنصرة ، هو عيد تأسيس الكنيسة . ففي مثل هذا اليوم بدأ الرسل يُمارسون سلطانهم الإلهي بعد أن حلّ عليهم الروح القدس الذي وعدهم به السيد المسيح عندما قال :
” وانا أسأل أبي فيهب لكم مؤيّداً آخر يبقى معكم إلى الأبد ” . وقد أتمّ السيد المسيح وعده فأرسل روحه القدوس وحلّ على التلاميذ بعد صعوده إلى السماء ، كما جاء في كتاب أعمال الرسل حيث قال : ” ولما أتى اليوم الخمسون كانوا مجتمعين في مكان واحد ، فانطلق من السماء بغتة دويّ كريح عاصفة فملأ جوانب البيت الذي كانوا فيه ، وظهرت لهم ألسنة كأنه من نار ، قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان ، فإمتلأوا جميعاً من الروح القدس وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم على ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا ” ( أعمال الرسل ٢ : ١ – ٥ ) . ومنذ ذلك الحين والروح القدس ما يزال يعمل مع الكنيسة ويقيم فيها إلى الأبد ، ليذكّرها بالحقائق التي علّمها يسوع ، ويقدّسها ويقودها إلى الخير والحق والصلاح .
١ – الروح القدس يذّكر الكنيسة بتعاليم السيد المسيح :
لا تعلّم الكنيسة إلاّ ما علّمه السيد المسيح ، فهي قيّمة على كنوزه الإلهية . ولا يمكنها أن تضيف أو تنقص شيئاً من الحقائق الجوهرية اللازمة للخلاص التي وكلها اليها السيد المسيح . والروح القدس هو الذي يؤتيها ، كما أتى الرسل ، أن تتفهم حق التفهُّم هذه الحقائق التي تعلمّها ويهديها الى خير السبل التي تمكنها من إفادة الناس من هذه التعاليم ومصارحتهم بالحقيقة دون تردد ولا وهن . وهذا ما أشار إليه السيد المسيح بقوله : ” ومتى جاء روح الحق ، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لا يتكلم من عنده ، بل يتكلم بما يسمع وينبئكم بما يحدث ” ( يوحنا ١٦ : ١٣ ) .
والروح هو الذي يهب الكنيسة المعلمة القوة على السهر على تعاليم السيد المسيح وحفظها سالمة من كل شائبة وضلال ، صافية طاهرة ولا عيب فيها ، ويرشدها الى اتخاذ ما ينبغي من التدابير التي تضمن سلامة الآداب والأخلاق المسيحية .
والروح هو الذي يلهم الكنيسة البحث في كنوز العقائد المسيحية فيساعدها على اكتشاف ما يحتاج اليه المؤمنون في كل عصر من عقائد تساعدهم على ان يحيوا ايمانهم ، ثم تحدّد هذه العقائد بسلطانها الإلهي فتجعلها إيمانية ، وهكذا ما تزال تُخرج ، كما قال السيد المسيح : ” من كنوزها كل جديد وقديم ” ( متى ١٣ : ٥٢ ) ، يمكنها من مواكبة جميع العصور ، فتبقى رغم كرّ السنين ، على فتوّة ونضارة .
٢ – الروح القدس يقدس الكنيسة :
وكما يذكّر الروح القدس الكنيسة بتعاليم المسيح ، فهو كذلك يقدسها بواسطة الأسرار الإلهية التي تعطينا النعمة .
فالعماد يولد المؤمن لحياة جديدة ينالها بالماء والروح القدس ،
والتثبيت يمنحه الثبات في الإيمان ،
والتوبة تغسل خطاياه بدم المسيح ،
والقربان المقدس يغذيه بخبز الحياة ،
والزواج يهبه نعمة متابعة الخلق ” انموا واكثروا واملأوا الارض ” و يمنحه القوة للمحافظة على الطهارة والعفة و الانتصار على الغريزة و التجارب ،
والكهنوت يهبه السلطان الإلهي لمتابعة سر الفداء والخلاص ، وتنمية الكنيسة ،
ومسحة المرضى تضمّد جراحه وتخفف الآمه الجسدية وتقويه على تحمل الاوجاع ،
وكل هذه النعم التي تصل إليه يواسطة الاسرار المقدسة ، تأتيه بواسطة الروح القدس الذي يدعوه الكاهن في كل منها ، فالروح هو الذي يقوي بواسطة الاسرار ، ويعضد ، ويبذل العون والمساعدة .
ولا يعمل الروح القدس في الكنيسة بواسطة الاسرار وحسب ، ولكنه يعمل في أعماق قلب كل من المؤمنين فيرشده الى طريق الصلاح ويقوده الى مواطن القداسة .
وهذا ما أشار إليه القديس اوغسطينوس في إحدى عظاته فقال : ” أو تريدون أن تحصلوا على الروح القدس ؟ اسمعوا أيُّها الإخوة ، أن الروح الذي يحيي كلاً من الناس يدعى النفس . أنظروا ما تصنعه النفس في الجسد ، فهي التي تحي الأعضاء : فهي ترى بالعينين ، وتسمع بالأذنين ، وتشم بالأنف ، وتتكلم باللسان ، وتعمل باليدين ،
وتسعى بالرجلين . فهي تقيم في كل من الأعضاء معاً لتُجري فيها الحياة … فالوظائف مختلفة ولكن الحياة مشتركة .
هكذا هي كنيسة الله ، فتأتي العجائب بواسطة بعض من القديسين الأتقياء ، وتُبشر بالحقيقة بواسطة غيرهم ، وتحافظ على البتولية بواسطة سواهم ، وتحافظ على الأمانة الزوجية بواسطة آخرين ، وتجعل ما سوى ذلك بواسطة هؤلاء أو أُولئك منهم ، لكل عمله الخاص ، إنما هم جميعاً لهم حياة مشتركة . وأن ما تقوم به النفس بالنسبة إلى الجسد ، يقوم به الروح بالنسبة إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة . فالروح يصنع في الكنيسة ما تصنعه النفس في أعضاء الجسد . ( القديس اوغسطينوس ، العظة ٢٦٧ العدد رقم ٤ ) . وهكذا يمكننا القول أن الروح القدس يقدس الكنيسة .
٣ – الروح القدس يقود الكنيسة ويرشدها :
يقول الطوباوي نيومن : ” إن المخلص ، بعد أن أتى إلى العالم ، لم يغادره ، بحيث تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل مجيئه . فهو باقِ معنا ليس فقط بنعمته ، إنما بروحه الذي يقوم مقامه في الكنيسة وفي نفس كل من المسيحيين … فالروح أتى خاصة ليمجّد المسيح . فهو نور مشع في الكنيسة وفي كل مؤمن يعكس المخلص في جميع كمالاته ووظائفه وأعماله ” ( الكردينال نيومن : خواطر في الكنيسة صفحة ٢٠٣ ) . فعندما تركنا المسيح يسوع ترك لنا رعاة منحهم سلطاته الإلهية ، ووضعهم على رأس الكنيسة ووهبهم الروح القدس ليعضدهم ويساعدهم في القيام بهمتهم ورسالتهم .
فالروح القدس إذاً هو من يقود النفوس ، بواسطة الرؤوساء الروحيين ، إلى تحقيق غايتهم وإرادة الله فيهم ، وهو الذي يحكم على أعمال المؤمنين ، ويؤمن للكنيسة وحدتها والنهوض برسالتها رغم المظاهر المتعددة المتجدّدة وفقاً لحاجات الزمان والمكان ، وهو أخيراً ما يزال يذكي في قلب الكنيسة هذه اللهبة من الغيرة الرسولية التي تدفعها
إلى نشر الحقيقة ومدّ العالم بالحياة الحقيقية .
الخاتمة :
هكذا نرى أن الروح القدس ما يزال يُقيم مع الكنيسة وفيها ، يُنير النفوس ويحييها ويعضدها ، ويعيّن لكل من الأعضاء وظيفته لبنيان جسد المسيح السري ، وسيظل مقيماً في الكنيسة وفيها إلى الأبد .
نطلب من الله الآب أن يحلّ نعمة روحه القدوس في قلوبنا لنفهم ما علمنا اياه ابنه الوحيد سيدنا يسوع المسيح ونعيشه ونعمل به .