“اكتشفت أن المساجين لم تكن حاجتهم الأولى إلى أناس يكلمونهم بل إلى أناس يتكلمون هم معهم. وكذلك يكون سرورهم أكثر إذا لم يكن أولئك الناس من موظفي السجن. إن قسيس السجن كان يؤدي رسالة طيبة ولكنهم كانوا ينظرون إليه كما لو كان سجاناً. كانوا يطلبون أشخاصاً من خارج السجن يستطيعون أن يبثوهم آلامهم ويشكون لهم متابعهم بعيداً عن الرسميات”…. هذا تحدثت ماتيلدة ريد Matilda Wrede صديقة المساجين عن محبتها لخدمتها.
ولدت ماتيلدة عام 1864 لعائلة عريقة فى فنلندا، كان والدها كارل جوستاف فابيان ريد حاكم مقاطعة “فاسا”، وتربيت تربية أبناء الطبقة العالية وكان المدرسون يأتون إليها لتعليمها بالبيت وفي إحدى الأيام بينما كانت تنتظر مجئ أستاذ الحساب وبينما هي تطل من النافذة رأت أمام البيت دكان الحداد وأبصرت سجينا يقوده حارسه إلى الحداد ليثبت في قدميه ويديه سلاسل ثقيلة وكان لأبد من وضع قدميه ويديه في النار للتمكن من الحديد وتثبيته، وترك هذا المنظر أشد التاثر في شخصيتها وكان النواة الحقيقة لخدمتها حتى لقبت ب صديقة المساجين.
وبدأت ماتيلدة بعدها في مراقبة المساجين وهم يجرون سلاسلهم الثقيلة وكانت تنظر إليهم بعطف وتقدم لها بعض البرتقال والكعك وتزامن شعورها مع الدعوات التبشيرية فى فنلندا ودروس الكتاب المقدس وكان وقتها المسجونون يعملون في الطرقات ولكن مقيدون بسلاسل حديدية وحدث ذات يوم أن قفل باب بيت ماتيلدة وجاءوا بأحد المساجين ليصلحه وتحدثت ماتيلدة مع المسجون عن الدعوات التبشيرية ورسالة الله واكتشفت ماتيلدة ان الرجل ليس بشرير كما هو معتقد عن المساجين وبعد أن تم إصلاح القفل وعدته ماتيلدة بزيارته فى السجن الأمر الذي عارضه والدها بشدة ولكنه بعد إلحاح واقف بشرط مرافقة أحد الحراس لها وكانت هذه هى زيارتها الأولى للسجن والتي تبعتها مرات أخرى حتى أصبحت تزور السجن يومياً.
وعندما إستقال والدها من وظيفته ظلت مدة تخدم بمدارس الأحد حتى رأت مجموعة من المساجين في الطريق وتألمت لأن لا أحد يسأل عنهم فقررت الذهاب إلى المدير العام لإدارة السجون وطلبت منه التصريح بزيارة جميع سجون فنلندا والعمل على خدمتهم من الناحية الروحية وكانت هناك صعوات جمة فى طريقها حتى استطاعت الحصول على التصريح اخيرًا وكان عمرها وقتها عشرون عاما عندما بدأت الخدمة.
وتقول ماتيلدة عن خدمتها للمساجين: “لا شئ يترك أعمق تأثير في نفس السجين نظير إظهار الثقة فيه والمحبة له . إن المحبة هي الإحساس بشعور الطرف الآخر. أن تضع نفسك في مكانه”.
وتحكي ماتيلدة حسب كتاب أطول الناس عمراً وشخصيات أخرى للدكتور القس لبيب مشرقى: “ركبت عربيتي من المزرعة قاصدة مكتب البريد لإرسال حوالة بريدية بمبلغ كبير جداً وكان سائق العربة سجيناً سابقاً وفيها هو يسوق العربة في طريق مقطوع وسط الغابة التفت إلى وسأل: هل أنت ذاهبة حقا إلى مكتب البريد لترسلي مبلغاً كبيرًا من المال تحملينه معك؟ وهل تجسرين أن تجتازي هذه الغابات الموحشة وحدك معي في حين أنك تعرفين أنني سلبت كثيرين الست خائفة؟ اجابت ماتيلدة: كلا ليس عندي ذرة واحدة من الخوف لأني أعلم أن الرجل الذي كان يسلب الناس كان انسانا بائسًا تعيسًا فإنفجر السائق يبكي وجعل يكلم نفسه إنها تثق بىّ سأكون انسانًا أفضل .
وفي عام 1912 أغلقت سجون فنلندا وقاومت الحكومة الروسية التي حكمت فنلندا خدمة ماتيلدة، وعندما قامت الثورة في روسيا أطلق سراح جميع المسجونين في فنلندا ولكن قبل أن يغادر المسجونين سجن كاكولا أرسلوا يطلبون رؤية ماتيلدة وبالفعل ذهبت إليهم وفوجئت بهم وهما 300 سجين واقفين في ثلاثة صفوف في ساحة السجن يرحبون بها بالترانيم ويقدون لها كاساً فضية جمعوا ثمنها من أموالهم وباقة من الورود الحمراء المزروعة ففيحديقة السجن وهكذا كان للحب والرأفة نتاج أقوى من الشد والقسوة.