هناك علاقة وطيدة بين اللغة وعمر الإنسان. ويمثل العمر أحد الأبعاد الاجتماعية المتعددة التي تصوغ هوية الإنسان ومكانته داخل مجتمعه. وكل جيل يأتي إلى الحياة يرى أن اللغة ملك له ،تعبر عنه، وتميزه عمن سبقوه.
فمنذ ولادتنا وطوال فترة الطفولة المبكرة ونحن نخاطب بلغة خاصة حافلة بأشكال التدليل وقصار الجمل والكلمات المبتسرة، ولغتنا في تلك الفترة أيضا بسيطة جدا ، فالجمل تحوي كلمة أو أكثر، ونظل نكافح من أجل التواصل مع الآخرين، والكل يأخذ بأيدينا في ذلك. وفي غضون سنوات قليلة جدا نكتسب اللغة على نحو أكثر تعقيدا من مدخلاتنا اللغوية البسيطة، ذلك أننا نضيف إليها، وهذا أمر معجز.
ويشتد عودنا قليلا، ونبلغ مرحلة المراهقة، فيبدأ شعورنا بالاغتراب؛ فلا نحن أطفالا ولا كبارا، فنتمرد على السلطة الأبوية وكافة أشكال الضبط الاجتماعي، وننضم إلى جماعات الرفاق ونلتمس كل السبل التي تقوى الأواصر فيما بيننا من ناحية، وتبعدنا عمن سوانا من ناحية أخرى، وتمثل اللغة المشتركة أحد أهم هذه السبل. فنرى أن لغة آبائنا التي يتحدثون بها غير مناسبة لنا، فنشرع في تغييرها على كافة المستويات، فننحت مفردات وتراكيب جديدة خاصة بنا، ونسبغ عليها دلالات خاصة. ويشمل هذا كل ألوان اللغة منطوقة كانت أو مكتوبة، ونتخذ من هذه اللغة الخاصة وطنا وعنوانا وهوية، واللغة دائما طيعة كريمة تستجيب لنا.
والإنسان لا يرث اللغة كما يرث جيناته، فلكل منا لغته التي تميزه عن أقرانه من حيث المفردات أو العبارات والمعاني والتنغيم، ينتقيها و يشكلها بشكل يتوافق مع أغراضه، ولذا فهو دائما يسخر ولو ضمنيا من لهجة آبائه أو من طريقة حديثهم.
وقد أظهرت العديد من الدراسات التي أجريت على العديد من المجتمعات، أنه بمرور العمر نجد أننا نحجم عن استخدام ما يسمي باللغة الشبابية ونحن إلى لغة آبائنا التي كنا ننفر منها في شبابنا، وترانا نحث على استخدام المفردات الراقية والبنى الرصينة. ونقوم بدور الوصي على اللغة وحامي حماها، متهمين أولادنا والجيل الجديد بأن اللغة قد وصلت إلى الحضيض على أيديهم. وأنها بلغت درجة غير مسبوقة من السوقية وانعدام الذوق، وأن كل شئ قد انهار سواء على مستوى الأغنية أو لغة الحديث، الخ.
وقد عزي ذلك إلى أن الإنسان في منتصف العمر يتحرر من جماعة الرفاق وينخرط في أنشطة عديدة ويقوم بأدوار اجتماعية متعددة، كرب أسرة وصاحب عمل أو مسؤول أو واضع سياسات، أي ان مقاليد الأمور تصبح بيده، فيأخذ اتجاها محافظا، فيعمد إلى ترسيخ التقاليد الاجتماعية وعلى رأسها استخدام اللغة ومحاولة تنقيتها من أي مستجدات لغوية قد تصدم الذائقة الجمعية، إلا أن تلك المحاولات لا يصادفها النجاح إذ تتسلل عبارات ومفردات من لغة الشباب والمراهقين وتجد لنفسها مكانا في اللغة عامة وقد يمتد بها المقام فتمكث لأجيال عديدة،
ويمضي بنا قطار العمر ويدركنا الكبر، ونترك مناصبنا وأدوارنا ونسلم الراية لمن يأتي بعدنا، و حلبة الحياة لمتصارعين جدد، فتبدأ مرحلة جديدة في علاقتنا باللغة. نصارع فيها من أجل الحفاظ على قدراتنا اللغوية من التدهور وربما الضياع، جراء العديد من العوامل الجسمانية والنفسية والاجتماعية. فنصبح أقل اهتماما بالتغيير اللغوي الذي صنعته الأجيال الجديدة، وأكثر تسامحا للتنوع اللغوي بشكل عام.
إذن….. فإنه العمر الذي يملي علينا ادوارا نقوم بها تجاه اللغة، فنثور عليها في شبابنا ونعمد إلى لي عنقها وتشكيلها وفق أهوانا وأغراضنا وسط استنكار واستهجان آبائنا، ويأتي أولادنا ويعيدون الكرة وسط استنكارنا واستهجاننا، وهكذا هي الحياة.
وتظل هذه الثنائية تحكم العلاقة بين الأجيال.وهذا لايضيراللغة أبدا بل إنها تحيا وتزدهر بالتغيير الذي يحدثه كل جيل من الشباب.
ونقول للكبار ارفعوا أيديكم عن اللغة، فكل محاولاتكم الوصاية على اللغة إلى زوال حتمي وتلك سنة التاريخ اللغوي.