قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (669)
مازال مجلس النواب المصري يتعامل مع قضايا الأقباط بتحاشي مواجهة الواقع والاعتراف بوجود مشاكل يتحتم مواجهتها بشجاعة وعلاجها, وبدلا من ذلك يلجأ المجلس إلي تصوير الأمور بمنطق ليس في الإمكان أبدع مما كان عن طريق تغييب الحاضر واستدعاء الماضي وسرد العبارات الفضفاضة المزركشة والمبادئ الدستورية والتنقيب في التاريخ الوطني بانتقائية مخلة… كل ذلك يفعله المجلس في معرض رده علي انتقادات جاءته من الخارج تتناول متاعب ومضايقات وتحرشات يتعرض لها الأقباط في حياتهم المعاشة هذه الأيام وهي ليست ناجمة عن أعمال إرهابية إنما عن جماعات متعصبة ضدهم دينيا يضاف إليها سلطات رسمية متقاعسة عن حمايتهم وقوانين معطلة عن الذود عن حقوقهم!!!
الغريب في الأمر أن المجلس وهو يفعل ذلك يتصور أن من ينتقدون أوضاع الأقباط في الخارج بلهاء أو لا يعرفون أدق المعلومات وأنه يكفي لإسكاتهم التغني برقائق وردية منتقاة من التاريخ البعيد أو بذكر مبادئ دستورية وقوانين موجودة علي الورق لكنها غير مفعلة… وسبق أن كتبت في هذا الشأن: … ما حاجة البرلمان إلي اللجوء لهذه المواقف المعيبة بينما يكفي أن يسجل بكل شجاعة ومصارحة أوجه القصور في الواقع المعاش مع التأكيد علي أنها شأن داخلي بين المصريين -أقباطا ومسلمين, حكاما ومحكومين, دستورا وقوانين- ومن غير المسموح لأي أجنبي التدخل فيها أو الزعم بحق مراجعتها وعلاجها.
أقول ذلك لأننا نحن الأقباط ومعنا إخوتنا المسلمون رفضنا تماما ما أثير في ديسمبر الماضي حول مذكرة مقدمة للكونجرس الأمريكي تنتقد أوضاع الأقباط في مصر, بل أن الكنيسة القبطية كان لها موقف وطني -ومعها مؤسسة الأزهر- في رفض لقاء نائب الرئيس الأمريكي عند زيارته لمصر منذ أسبوعين احتجاجا علي السياسة الأمريكية في المنطقة وقرار نقل السفارة الأمريكية إلي القدس… إذا المواقف الوطنية ثابتة وليست محل مزايدات بالرغم من استمرار المعاناة… لكن ماذا فعل مجلس النواب إزاء مذكرة الكونجرس؟… هذا ما نشرته الأهرام بتاريخ 23 يناير الماضي تحت عنوان: ردا علي ادعاءات الكونجرس الأمريكي.. مجلس النواب: مصر لم تغير نسيجها الوطني منذ فجر التاريخ, وأود لفت نظركم أن علامات التعجب التي تتخلل الكلام من عندي:
أرسلت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب ردا علي الكونجرس حول انتقاده لأحوال الأقباط في مصر, وجاء في الرد أن مصر لم تغير نسيجها الوطني منذ فجر التاريخ (!!).. حيث ظلت محافظة علي الوفاق الوطني بين كافة أبنائها المسلمين والأقباط عبر الزمان (!!).. ومصر بحضارتها وتراثها الإنساني استوعبت عبر التاريخ كافة الثقافات والأديان دون تفرقة بين مسلم ومسيحي (!!).. واتسعت أرضها لرحابة الفكر والعقيدة ووعود الأمن والأمان (!!).. حيث لم يجبر مسيحي علي دخول الإسلام وتعانق الهلال مع الصليب في ثورة 1919 وارتفعت شعارات الدين لله والوطن للجميع وتسود فيها قداسة دور العبادة والحفاظ عليها إسلامية كانت أو مسيحية لتجسيد أهمية المواطنة وصلابة الوحدة الوطنية (!!)..
ومصر في حرصها علي تطبيق مبدأ المواطنة أصدرت قانون بناء الكنائس عام 2016 وشهدت بعده نهضة في بناء الكنائس وتقنين أوضاع أكثر من أربعة آلاف كنيسة (!!!!).. ومجلس النواب بصدد مناقشة مشروع مكافحة التمييز علاوة علي الحرص علي مشاركة الأقباط في تولي المناصب القيادية في وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة (!!).. وأوردت اللجنة في ردها أيضا نص المادة (53) من الدستور التي تشير إلي أن المواطنين لدي القانون سواء, متساوين في الحقوق والحريات, وأن الدستور نص علي عدم التمييز ومحاربة الحض علي الكراهية كجريمة يعاقب عليها القانون (!!).. ولم يفت اللجنة ذكر مشاركة الرئيس السيسي الوجدانية للأقباط في أعيادهم واحتفالاتهم (!!).
لكن لجنة العلاقات الخارجية -وهي غير المضطرة إلي هذا الرد التاريخي الفضفاض والانتقائي- لم تتعرض لواقع التعصب والفرز الذي دأب الأقباط علي التعرض له من مجموعات أصولية متطرفة في محافظات مثل الجيزة والمنيا وأسيوط وسوهاج وغيرها.. في مدن ومراكز وقري منتشرة فيها حيث يتعرضون للاعتداءات والإرهاب والترويع والمنع من الصلاة, يضاف علي ذلك تقاعس سلطات الإدارة والأمن عن حمايتهم وتغييبها القانون بفرضها المجالس العرفية حيث المصالحات القسرية بين الجاني والضحية مصحوبة بإغلاق الكنائس وتهجير الأقباط وإفلات الجناة والمجرمين من المساءلة والمثول أمام العدالة… وكأن البرلمان المصري وهو يغض البصر عن هذا الواقع المريض غير مستعد للاعتراف به أو التصدي لعلاجه!!!… وأكرر أن الكارثة في هذا المشهد أنه بدلا من رفض التدخل الأجنبي في الشأن المصري ينزلق البرلمان في رد باهت يتهرب من الحقيقة ويراهن علي أن الكونجرس سوف يبتلعه!!!
علي جانب آخر دعوني في هذا السياق أسوق جزءا مما كتبه الأستاذ مريد صبحي الكاتب في الأهرام بتاريخ السبت 27 يناير الماضي تحت عنوان ما لم يقله البابا تعليقا علي الزيارة التاريخية لقداسة البابا تواضروس الثاني لمؤسسة الأهرام يوم الثلاثاء 23 يناير: .. انطلق الحوار متدفقا ودافئا علي أرضية وطنية خالصة, ورغم اعتراف البعض بوجود ممارسات تمييزية ضد الأقباط هنا أو هناك, إلا أن رد البابا كان هادئا كعادته وقال إننا لم نصل بعد لنهاية الطريق ولكن المهم أننا بدأناه… لكن ما لم يقله البابا بحكم موقعه ولياقته أنه حان الوقت لإعمال القانون بحسم علي تداعيات الملف القبطي, وضد كافة أشكال التمييز أو تجاهل تطبيق قانون بناء الكنائس وتعطيل تقنين أوضاع الكنائس غير المرخصة, علاوة علي السكوت علي تيارات التحريض ضد الآخر بالتكفير وازدراء الأديان… حان الوقت لتطبيق مبدأ المواطنة الكاملة عملا لا قولا….
*** ما رأي لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب في ما أورده الأستاذ مريد صبحي؟… وما رأيها في كل ما تحفل به أعداد وصفحات وطني من أحداث سلبية يتعرض لها الأقباط؟… كل هذا أهديه إلي اللجنة وأسلط عليه الضوء بشجاعة بالرغم من أننا لسنا مدينين بأي رد علي الكونجرس الأمريكي ونؤكد أنه لا شأن له بأمورنا الداخلية التي يتوجب علينا نحن ولا أحد سوانا مواجهتها بشجاعة والتصدي لعلاجها.