أدباء على الجبهة ..ذكريات وطنية وانسانية
.. ذكرى غالية على قلوب المصريين .. ويظل يوما للنصر وتاريخا للعزة والكرامة وباعثا على الفخر لكل أبناء مصر.. انتصارات اكتوبر حدث من أعظم الأحداث في تاريخ مصر فقد تحررت الأرض والارادة، فهي ملحمة بطولية لشعب ابى أن يستسلم، استعادت مصرالثقة بالنفس والقدرة على مواجهة العدو مهما كانت قدراته وشراسته دفاعا عن الكرامة، والحقيقة انه ما كان لمسيرة التنمية التي تشهدها مصر حاليا أن تنطلق لولا تضحيات الشهداء الذين روت دمائهم أرض سيناء الغالية.
ومن هؤلاء الأبطال الشهداء العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعى الذي وافته المنية بشظية صغيرة اخترقت القلب مباشرة في 19 اكتوبر 1973 ، فهو مؤسس وقائد المجموعة 39 قتال – نسبة إلى قيامها بتسع وثلاثين عملية قتالية – وهي المجموعة الاستثنائية في تاريخ العسكرية المصرية. والتي قدر للأديب الكبير جمال الغيطاني أن يقترب منها ويعايش أفرادها وأعمالهم القتالية عن قرب في فترة صعبة واستثنائية، عن هذه الظروف كتب روايته “الرفاعي” التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة
للكتاب عام .1977
رواية الرفاعى
——————————
يعد الشهيد العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي أحد أساطير الجيش المصري في حرب اكتوبر 1973 والذي ذهب إلى بارئه بعد رحلة قصيرة في هذا العالم، طبقت شهرته خلالها الآفاق في الوسط العسكري وكانت سيرته تُتداول كالمعجزة بين من يعرفونه. ولم لا وهو الذى جاء إلى الدنيا ليقاتل دفاعاً عن كل الذين مر بهم وعرفهم أو مشوا معه وحاوروه في تلك القرى والمدن، عن كل من يعيشون في هذه المساحات التي طار فوقها بالهليوكوبتر كل من رآهم يرشفون الشاي في المقاهي، ويحتفلون بأعياد الميلاد ويهمسون بالنجوى. وهو الرفاعي الذي قال عنه الضابط بهيئة الأركان: “إن الرفاعي قلبه أطلس حي لمصر… فهو يعرف المدن من أضوائها عندما تبدو للمحلق بالطائرة، ومن أهلة مآذنها ومبانيها. كما يعرف المحافظات من تعرجات النيل وضيق واتساع المساحة الخضراء. في الهليوكوبتر يعرف بعد كم من الثواني ستشهق قمة جبلية، وأي الممرات تخلو من دوامات الهواء. يشم هبوب العاصفة، ويدرك من لون السماء متى يجيء المطر؟”
ويروى لنا جمال الغيطاني كيف كان الرفاعى يتذكر هؤلاء الفلاحين، عند خروجه من المدينة يستعيد آخر من رآهم يسعون عبر الطرقات أو يخطون فوق الأرصفة، الملامح المرهقة، الاستسلام الغريب، الضحكة الضائعة، والنظرة الولهى من عينى مجهول، وشظايا عبارات متطايرة، بيوت مسكونة بالأسرار والماضي، دائما يخرج من المدينة عبر ثلاث نقاط، طريق السويس المزدحم بالثكنات حتى الكيلو 4.5 ، ثم طريق الاسماعيلية المحاذى لمطار القاهرة، ثم هذاالطريق المؤدى الى بطن الصحراء الشرقية، أن آخر الأشياء والمرئيات تمر به عند الخروج الى القتال، آخر من تحدث اليه، ملامح نادية، آخر عبارات تبادلها مع الضباط والجنود الذين لم يخرجوا معه، يذكر الآن آخر اشتباك في صيف عام 1970، تمتد الصحراء الآن صامته، بحر تجمد منذ عصور سحيقة، لكن هذه المسافات الشاسعة حبلى بحركة خفية، اليوم يختلف الأمر عن خروجهم في المرات السابقة، انهم الآن جزء من كل، لا يلتفت الى من معه لكنه يدرك الانطباعات، حدة العقيد علاء التي توحى بأنه سيشترك فورا، جلوسه بميل الى الامام، وضع الملاكم قبل تسديد الضربة، أبو الفضل الصعيدي وملامحه التي تعكس احساسا بالانتظار، مصطفي المتأهب دائما لتلقى الامر، أبو الحسن وشبح ابتسامة دائمة قد تظهر في أي لحظة، ان الرفاعى يرى تلك الروابط الخفية، تشد كلا منهم الى الآخر، قبل العبور لملاقاة الحرب يصبح كل منهم أكثر احساسا بالآخر، أى كلمة تقال تلقى موضعا وثيرا في آذنهم. أى لمحة ساخرة تفجر الضحك من أعماقهم. اثناء الانطلاق تتعانق أذرع غير ممتدة، وتتماس خطوط البصر المستقيمة، بعد قليل سيواجه كل منهم الموت، والموت يحوم فوق الجماعة ثم ينقض فوق الانسان الفرد، الشظية لا يوقفها الا جسم واحد، يصبح الانسان شديد الوحدة في مواجهة الموت، ان تجاورهم، ومد جسور العواصف واستعادة الذكريات، كل ذلك يحصنهم ضد اللحظة المؤجلة
.
ويروى لنا الغيطاني كيف كان صدق الرفاعي يدفع سامعه إلى تصديق قوله، وذلك عندما يعلّم من حوله معنى كلمة “وطن” والدفاع عنه، فعندما قال ضابط احتياطي من حملة المؤهلات ان مستقبله ضاع بسبب الجيش، وأنه كان مرشحا لبعثة إلى أوروبا، فأشار الرفاعي إلى الشرق وسأئله من يطرد هؤلاء؟ ثم قال: وهل نستورد رجالا ليحاربوا لنا؟ ثم قال: لو تركنا العدو فلن يظل مكانه، انما سيجئ لأنه يطمع في هذا الفول الأخضر، ومد يده واقتلع عودا من النبات الأخضر. سأله الرفاعي: هل نمشي كلنا ونتركه يمضي إلى بيتك وبيتي وأختك وأختي؟ قال الشاب: لا. قال الرفاعي: أنت قلتها بنفسك.”
والحقيقة ان مثل الرفاعي هم من يجعلون المرء يفكر أن هناك من كُتب عليهم أن يعيشوا رجالا ويموتوا بشرف. ولأن الموت بشرف قَدَر لا يناله إلا من يستحق ، ربما لهذا السبب رحل الرفاعي هكذا ليظل في نفوس من عرفوه وسمعوه، وكما قال الغيطاني على لسان أبو الفضل أحد أفراد مجموعة 39 قتال: “كان سكنه في العمر وضريحه في قلبي.”
المصريون والحرب
“على امتداد الجبهة شمخت القواعد، كأهرامات صغيرة، ومنها انطلقت ألسنة اللهب تدفع الصواريخ لتحمى عبور قواتنا إلى الشرق، وتزود عن سمائنا الفسيحة المنبسطة الصافية”، هكذا وصف الكاتب جمال الغيطاني مشهد عبور قواتنا المسلحة في حرب أكتوبر 1973، في كتابه “المصريون والحرب – من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر”، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في ذكرى رحيل الكاتب الكبير والذي أهداه إلى من استشهدوا كي نبقى وتبقى مصر
في مقدمة الكتاب يقول الغيطاني: إن المقاتل المصري كان قد تعرض لحملة نفسية واسعة بعد يونيو 1967، هذه الحملة كانت موجهة في حقيقتها إلى الإنسان المصري ذاته بتاريخه ومكوناته الحضارية، وقد تمحورت حول عدم قدرة المقاتل المصري على خوض حرب حديثة، بل شككت في قدراته القتالية حتى وصل الأمر إلى أن أحد الباحثين الفرنسيين أعد رسالة علمية تقدَّم بها إلى جامعة السوربون، وتدور حول العوامل الحضارية والنفسية التي تجعل المقاتل المصري غير صالح لخوض غمار حرب.
لقد عاش الشعب المصري، كما يحكى الغيطاني، في جو نفسي كئيب مما جعل الإسرائليين يتصورون أن نكسة يونيو هي النهاية، مثلما تصور ذلك كل الغزاة الطامعين الذين هاجموا مصر عبر تاريخها الطويل. لكن رغم هذه السوداوية والإحباط الشديد، كان هناك طريقان ينفذان عبر مرارة الفترة: طريق يؤدى إلى عمق التاريخ المصري الموغل في القِدم، والطريق الثانى هو الحاضر الذى نعيشه، الواقع اليومى بعد الهزيمة، والقول للغيطاني. لقد كان الجيش المصري بعد هزيمة يونيو، (يذكر ذلك الغيطاني) ، يعمل في ظروف غاية في التعقيد، إذ كان عليه أن يُعيد تجديد بنائه، وأن يصد، في الوقت نفسه، اعتداءات العدو الإسرائيلي، ثم يخوض حرب الاستنزاف حتى 18 أغسطس 1970، ثم يواصل التدريبات في صمت ويبذل الجهد بلا حد حتى تجيء الذروة في 6 أكتوبر 1973. الغيطاني يرى أن خلال الفترة الواقعة بين عامى 1967 و1973 كانت العوامل الحضارية في التاريخ المصري، أو عناصر الوطنية المصرية تتبلور بوضوح، أو تعمل بشكل خفي مؤثر لتشكل سلوك الإنسان المصري، وظروفه خلال هذه الفترة الحاسمة الحرجة من التاريخ المصري.
كذلك يورد الغيطاني في مقدمته جزءًا من مقال لصلاح عيسى يقول فيه : إن الإنسان المصري دائمًا ما كان يتعرض لحملات التشويه، لقد كان هناك خطر ما يحيق بأعدائه إن لم يعملوا على تشويهه بكل ما في استطاعتهم، واصفًا المقاتل المصري بالعنيد الذى يملك قدرة العطاء اللامحدود حرصًا على استمرار مصر وعلى تخليصها من أدران الظلم والطغيان. وهكذا يعلو الإنسان المصري في لحظات الخطر، خصوصًا أن حياته مرتبطة تمامًا بالأرض، إنه يجد حياته مهددة أمام الغزو، وليس لديه خيار: إما التصدى للعدو وإبادته، وإما الموت.
أطلق جمال الغيطاني الذى كان مراسلا حربيا في تلك الفترة على القسم الأول من كتابه “البعث”، وذلك لكونه كان يرى أن “حرب الاستنزاف كانت بعثا لروح جديدة في جنودنا، وفيه يحكى الكاتب عن بداية تعرفه على المقاتل المصري فوق أرض الواقع، والتي يتغزل فيها المدينة الباسلة “بورسعيد” وعن لقائه بجنودنا على جبهة أثناء فترة حرب الاستنزاف، وحياة جنودنا ورغبتهم العالية في تحرير الأرض”.
أما في “الحياة مستمرة”، اختار الحديث عن أهالى مدينة السويس، وشجاعة أهلها خصوصا من قرر البقاء فيها لتكون “أرض المحى والممات” لهم، شارحا الوضع الذى كانوا يعانونه في حياتهم حتى أنهم كانوا يطلقون أسماءعلى أصوات مدافع الجيش المصري مثل “عنتر، الشيخ طه”، وكانوا يعرفون هجوم الطائرات حتى قبل سماع صافرات الإنذار، وأخذ الكاتب يسرد ذكرياته مع أهل المدينة، فتحدث عن عم حسن بائع الجرائد السودانى الأصل الذى زار العديد من بلدان العالم ومن قبلها فقد أبوه وأمه في بلده، وقرر أن يكمل حياته في السويس حتى بعد الحرب، ليبقى مع زوجته “عايدة” والتي كان يطلق عليها “أم السويس” رغم صغر عمرها.
وفي “الطريق إلى أكتوبر” تحدث الغيطاني عن بداية الاستعداد لحرب العبور، وكانت البداية في يوم 30 يونيو، عندما اسقطت أول طائرة من نوع الفانتوم الأمريكية بواسطة قوات الدفاع الجوى المصري، والذى اتخذ من ذلك التاريخ فما بعد عيدا له، وتحدث عن الرغبة المصرية في تحرير الأرض بداية من القيادة المصرية منذ عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وحتى أصغر ضابط في صفوف الجيش، ويبدو في الفصل تأثر الغيطاني في بالحقبة الناصرية، وخصوصا مجانية التعليم.
ثم اقتحم بنا الكاتب الضفة الشرقية لقناة السويس في فصله الرابع “الاقتحام”، التي ترصد معركة العبور بعين المقاتل المحارب المُكبر المنتصر وبدأ كتابته عن ملحمة العبور بنداء قائد الفرقة الثانية في جنوده ظهر يوم السادس من أكتوبر: “يا رجال مصر، جاء اليوم الذى نهب فيه لتحرير أرضنا سيناء العربية، إن سيناء كانت وستبقى دائمًا مصرية “.
في فصله الأخير “رسائل مقاتل من أعماق سيناء”، ترك الغيطاني رسائل المقاتلين في صفوف الجيش المصري، لتحكي عن إيمان أصحاب الملحمة الحقيقية، فعل أبرزها تلك الرسالة التي تقول”سأنقطع زمنا عن الكتابة، إننى أتاهب للقيام بمهمة قتالية ستستغرق وقتا ومنا.. أما الآن، وحتى أكتب لكم مرة أخرى، وحتى نلتقى، أدعوا لنا بالنصرة. وأذكرونا”.
الطوفان
“ماذا قال الإسرائيليون عن حرب أكتوبر ؟ وماذا قال الخبراء العالميون؟ وكيف يراها العرب؟ .. ” هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها الإعلامى حمدى الكنيسى في كتابه “الطوفان” حيث يتناول المؤلف في صفحات الكتاب دراسة وثائقية شاملة لحرب 6 أكتوبر 1973 منذ اندلعت شرارتها وحتى مرور ثلاثة أعوام عليها ، ويشير المؤلف إلى قدرات قواتنا المسلحة وإمكانياتها الهائلة في أصعب المواقف وأدق الظروف، فخاضت ببسالة وإقدام حرب الاستنزاف التي قادها ببراعة جمال عبد الناصر رافعا شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، ثم خاضت بأعظم طاقات التخطيط والتنفيذ والتضحيات التي قادها بشجاعة أنور السادات والتي قلبت الموازين العسكرية العالمية، ثم أضافت قواتنا المسلحة صفحات ناصعة مبهرة لتاريخها عندما احتضنت ثورة 25 يناير 2011 إلى أن كان التحدى الأحدث والأشرس فاستجابت بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسى لنداء الشعب في 30 يونيو 2013 لتنطلق الثورة الثانية رافعة شعار (العزة والكرامة) في مواجهة أخطر التحديات والمؤامرات والمخططات الداخلية والخارجية.
الحرب في بر مصر
——————————————
على الرغم من أن رواية “الحرب في بر مصر” لكاتبها الشهير يوسف القعيد قد تحولت إلى عمل سينمائي أنتج عام 1991 في فيلم يحمل اسم “المواطن مصري” بطولة الفنانين عمر الشريف، عزت العلايلي، صفيه العمري، عبد الله محمود، واخراج صلاح أبو سيف، إلا أن قراءة الرواية تحمل لقارئها الكثير من المتعة والعمق مقارنة بالفيلم حيث نجد الكاتب في مقدمة روايته لا يكتب غير قول لهيرودوت “في مصر شاهدت اشياء كثيرة ولكني لم أنطق ” .
وتدور أحداث الرواية في قرية من قرى مصر قبيل حرب 1973، حيث يقوم عمدة القرية بسلب أرض الخفير الخاص به بحكم قانون يلغي أحكام الإصلاح الزراعي، ويلوح للخفير باستعادته لأرضه في مقابل أن يقوم بإرسال ابنه “مصري” ذلك التلميذ الفقير المتفوق في دراسته، بدلا عن ابن العمدة الأصغر للالتحاق بالجيش كما يفترض به أن يفعل معللاً العمدة فعلته قائلاً : ” ان والدى يقول لو ذهب احد منا الى الجهادية لاهتزت شجرة العائلة وتقوست وأقتربت من الأرض .. ولما كان عمر هذه الشجرة يعود الى زمن المماليك والأتراك في مصر فلا يصبح من حقى العبث به”، خاصة بعد أن أخبر كاتب مواليد البلد العمده بان المصري ذهب الى مكتب بريد البلد يسأل عن استمارة تطويع للجيش وقيل له ان الاستمارة توزع بمعرفة مندوب الجيش ، وبهذا استطاع ان يريح الكاتب ضميرالعمده قائلاً له : “إن الخدمة في الجيش هى الوسيلة الوحيدة للحصول على وظيفة مضمونة .. يوجد نظام في القوات المسلحة أن من يخدم فيها يحصل على وظيفة ثابتة بدرجة حكومية بمجرد انتهاء خدمته ”
وحتى لا ينكشف هذا الأمريستخرج أوراق إثبات جديدة ل”مصري” باسم ابن العمدة، ويوخذ منه كل ما قد يثبت هويته الحقيقية .
و بالفعل يلتحق “مصري” بالجيش وتبدأ الحرب الذى يستشهد بها ببسالة لكن الأوراق الرسمية كلها تشير إلى أن ابن العمدة هو الذي استشهد، و لذلك يضطرالعمدة الى تقبل العزاء المصحوب بالثناء والتمجيد لبطولة ابنه المزعوم ، بينما الابن الحقيقي حي يرزق، ويستمر ظلم العمدة بعدم تسليم الجثة إلى الوالد المكلوم، و تدفن خيوط اللعبة مع الشهيد. ولعل هذا يذكرنا بمقولة “أمل دنقل” في رائعته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة حين يقول: ” أُدعى إلى الحرب .. ولا أدعى إلى المجالسة ” ، كما أن مما لا شك فيه أن لاختيار اسم “مصري” دلالة رمزية في إشارة إلى كل فرد مصري من الطبقة الكادحة يستغل عرقه لخدمة مصالح طبقات أخرى..