عندما نتحدث عن “الألم”، فإننا نتحدث عن المألوف والمعاش: فمن منا لم يتألم، ومن منا لم يخشى الألم، ومن منا لم يتوهم أنه يتألم؟ إن تجربة الألم فى صميم الحياة، والموت وحده هو نهاية الألم لأنه نهاية الحياة. وللألم أسباب قد يصعب حصرها، فنحن نعانى من آلام الجسد وآلام النفس. ووفق التعريف القاموسى فإن كلمة “ألم” لها دلالات متعددة، فهى تعنى الوجع الشديد، وهذا يعنى أن الوجع ليس بالضرورة ألما، بل هو إحساس يمكن أن يتحول إلى ألم، وبالمعنى النفسى فإن الألم هو الحزن والأسى، وهوشعور على نقيض اللذة من حيث عدم الراحة أو الضيق أو المضض، وبالمعنى الفلسفى، فإن الألم أحد الظواهر الوجدانية الأساسية. ونحن نخشى الألم ونسبه ونسلك كل السبل للهروب منه، ومع ذلك فإننا نقدسه كتجربة إنسانية أو إيمانية، ولنا فى آلام المسيح خير مثال. والإحساس بالألم حقيقى، وأحيانا يصل لدرجة تتجاوز طاقة البشر على تحمله، ولكن من ناحية أخرى، فإن تعبيرات الألم لا تخلو من أوهام ورياء وكذب، فنحن نتوهم بأننا نتألم، والبعض يصطنع الإحساس بالألم، فيمثله ويتمثله.
والألم تجربة ذاتية وإجتماعية وثقافية، نعيشها بشكل خاص وذاتى، أو فى سياق التواصل مع المحيط الاجتماعى، فنحن نشارك الآخرين الإحساس بالألم ولكننا لا نتقاسمه، ونعبر عنها بشكل ثقافى سواء تعلق بنا أو بآلام الآخرين. فعندما نقول أننا نعانى من الألم، فإننا نتحدث عن أنفسنا، وقد نعرف طبيعة ومصدر الألم، وهذا فيما يخص الآلام الجسدية، ولكن فى بعض الأحيان قد نتألم ولا نعرف سبب الألم، وهذا يحدث غالبا مع الآلام النفسية، ولذا فنحن نحتاج إلى من يساعدنا لكى نصل إلى مصدر الألم المجهول، ومن الشائع اختلاط الألم الجسدى بالنفسى Psychosomatic، فنتوهم أننا نعانى من آلام جسدية فى حين أنها أعراض لسبب نفسى. والألم كذلك تجربة ذاتية وثقافية، فثمة فرق بين الألم والإحساس به، فإذا كان الألم حالة مادية (جسدية أو نفسية)، فإن الإحساس به والتعبير عنه لا يخلو من ثقافة، فالأشخاص لا يشعرون بالألم بنفس الدرجة ولا يعبرون عنه بنفس الطريقة. وهذه ما نلاحظه لدى الكثيرين من خلال الشكوى، فقد يصاب شخص بألم جسدى أو نفسى ولا يكف عن الشكوى وإظهار معاناته، وثمة أشخاص يعتصرهم الآلم ولا يعبرون، وقد يتحملون ما لا طاقة لهم به. وهذا لا يمكن تفسيره فقط بقدرة الشخص على التحمل، لأن هناك أسباب أخرى، منها الرغبة من لفت الأنظار أو كسب التعاطف أو حتى ابتزاز الآخرين. وبالمقابل فإن إخفاء الألم قد يكون سببه الخوف على الآخرين أو الخوف منهم، بمعنى أن الشخص لا يريد أن أن يسبب، بألمه، معاناة من يحب أو المحيطين به فلا يظهر معاناته ولا يشكو، أو لأنه يخشى أن يبدو ضعيفا أو مهزوما فى أعين الآخرين سواء كانوا من الأحباء أو الأعداء.
ومع ذلك، فإن الألم ليس مجرد تجربة ذاتية، لأننا أيضا نتألم من أجل الآخرين من خلال الإحساس بالآخرين أوالتعاطف معهم، فثمة حالات ووقائع وصور تؤلمنا لا تخصنا بشكل مباشر ولكننا نتألم، وقد يجد البعض فى هذا النوع من الإحساس بالألم نبلا ورقيا، وهذا يختلف عن الإحساس بألم أقرب الناس إلينا، فنحن فى هذه الحالة لا نتضامن أو نتعاطف بل نتألم فعليا ونصبح جزءا من دائرة الألم التى تجمعنا مع من نحب، فلأم، وهو المثال الأبرز، تعانى بسبب معاناة الأبناء، وعلى الرغم من أنها لا تقتطع جزء من الألم، إلا أن إحساسها به قد يفوق إحساس المصاب نفسه.
وإذا كان الإحساس بالألم تعبيرا إنسانيا ووجدانيا، فإن الجانب المظلم والحقير فى تجربة “الألم” لا يتعلق بالألم ذاته، ولكن عندما يرتبط الألم بالإيذاء. والإيذاء له أشكال متعددة فردية أو جماعية، وله أسباب متعددة نفسية أو سياسية، ويستهدف الإيذاءإحداث ألم جسدى أو نفسى للسيطرة على الآخر أو الانتقام منه أوحتى تدميره. وتشير التجارب إلى أن هناك من يتفنن فى إيذاء الآخرين وتعذيبهم حتى أقرب الناس إليهم، ولكن الأكثر شيوعا والأكثر خطور هو ممارسات السلطات والتى لديها من أساليب وأدوات االتعذيب ما يستهدف إحداث الحد الأقصى من الألم الجسدى والنفسى. ولذا فإن التعذيب جريمة ضد الإنسانية لأنه فعل إرادى تمارسه السلطات إلى حد تدمير الإنسان نفسيا وجسديا. وهنا نخرج من دائرة تعريف الألم كحالة وجدانية، إلى دائرة الإيلام كفعل إجرامى لا أخلاقى.