قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (651)
القرار الأمريكي الذي أعلن أواخر الشهر الماضي بخفض وإرجاء شرائح من المعونة الأمريكية لمصر فجر موجات من ردود الأفعال بين السياسيين والإعلاميين تستحق التأمل… فبداية الأمر كانت في صدور بيان حكيم ورزين من وزارة الخارجية المصرية ينعت القرار بسوء تقدير العلاقة الاستراتيجية بين البلدين علاوة علي اتباع الإدارة الأمريكية نهجا يفتقر للفهم الدقيق لأهمية دعم استقرار مصر ونجاح تجربتها في مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية… ثم مضي البيان ليسجل أن مصر تتطلع لتعامل الإدارة الأمريكية مع برنامج المساعدات من منطلق الأهمية الحيوية لتحقيق مصالح الدولتين والحفاظ علي قوة العلاقات الاستراتيجية فيما بينهما.
بيان وزارة الخارجية المصرية يرقي إلي مستوي إدراك المسئولية السياسية في عدم الزج بالقرار الأمريكي إلي نطاق الخلاف السياسي أو الخصومة بين أمريكا ومصر, لأن إدراك أهمية العلاقات الاستراتيجية والمصالح التي تربط الدولتين والتي تفوق كثيرا أبعاد قرار المساعدات يحتم التعامل مع القرار بترو وحكمة لامتصاص تداعياته- بل وتهيئة المناخ لإعادة التفاوض بشأنه دون الانزلاق في معركة دبلوماسية غير محمودة العواقب, وذلك يجب أن تتفهمه الدوائر السياسية والإعلامية لأنه يرتبط بالأمن القومي المصري وبحسابات تتصل بالمصالح العليا للبلاد تفوق كثيرا شريحة المساعدات موضوع القرار الأمريكي.
أي أن الموقف الرسمي المصري بني علي عدم تضخيم القرار الأمريكي وتمريره دون الانزلاق نحو افتعال أزمة دبلوماسية أو سياسية قد تكون لها تداعيات وخيمة, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الفهم العاقل لطبيعة دوائر صناعة القرار في الإدارة الأمريكية والأدوات التشريعية والسياسية التي تحكمها, والتي قد تفرز قرارات مثل القرار الذي نحن بصدده ولكن توجد لديها خطوط الرجعة التي تحول دون خروج الأمور التي تربط المصالح الاستراتيجية بين أمريكا والدول الحليفة عن حدود السيطرة.
لذا لم يكن من المناسب أن تندفع بعض الدوائر السياسية والإعلامية نحو شن حملات مسعورة تشجب القرار الأمريكي وتعطيه أكثر كثيرا من حجمه غير مبالية بتداعيات ذلك المسلك علي شحن الرأي العام واستنفاره ضد طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية والاستهانة بالمصالح الاستراتيجية المتبادلة التي تربط البلدين… وكان من أمثلة ذلك آراء تدعو للاستغناء الكامل عن المساعدات الأمريكية لمصر اقتصادية كانت أو عسكرية(!!)… وهو ما عبر عنه أحد المفكرين بقوله: عندما نريد الاحتجاج علي التدخل الأمريكي في شئوننا الداخلية يتوجب علينا أن نرفض الحسنة منهم ونغير من سياساتنا الاقتصادية بما يعالج الاختلالات فيها ويحقق لنا الاكتفاء الذاتي فلا نحتاج لأحد حتي تعود مصر كما كانت في ستينيات القرن الماضي دولة غنية مانحة للمعونات للدول العربية والأفريقية وغيرها(!!)… أيضا ما صرح به أحد الإعلاميين من أن علي مصر أن تقدم علي تنويع مصادر تسليحها حتي تستقل عن تبعيتها العسكرية لأمريكا وتضع حدا لاحتياجها للمعونة العسكرية الأمريكية(!!)… وبلغ قمة الاندفاع ما دعا إليه سفير سابق بوزارة الخارجية بأن يتم تصعيد الرد المصري علي القرار الأمريكي بسحب المزايا الخاصة التي تتمتع بها السفن والطائرات الأمريكية في المجالين البحري والجوي المصريين, الأمر الذي من شأنه إزعاج السلطات الأمريكية ودفعها لإعادة النظر في قرارها بشأن المساعدات لمصر(!!).
للأسف الآراء السابقة كلها جانبها الصواب في التعامل مع الأزمة- إن كانت هناك أزمة بالفعل- وغامرت بالزج بالعلاقات المصرية الأمريكية إلي مأزق الخصومة والمواجهة غير محمودة العواقب… لكن لحسن الحظ كانت هناك آراء مناقضة لها جنح أصحابها إلي الدعوة لعدم المبالغة أو الانفعال في تقييم الموقف وتمريره بشكل يسمح للقيادة المصرية بالتعامل معه بما يخدم المصالح الاستراتيجية المصرية… وقد استرعي انتباهي في هذا الصدد المقال المنشور في صحيفة الأهرام بتاريخ أول سبتمبر الجاري بعنوان هوامش علي دفتر المعونة الأمريكية لمصر بقلم الدكتور محمد مجاهد الزيات أجتزئ منه المقاطع الآتية والذي شعرت بارتياح شديد لما حمله من رؤية ومضمون:
** القرار الأمريكي المذكور بررته الدوائر الرسمية الأمريكية باتهامات لمصر بخصوص التعامل مع الجمعيات الأهلية واحترام حقوق الإنسان, وسربت دوائر أخري أسبابا إضافية لعدم مشاركة مصر في الحصار الأمريكي علي كوريا الشمالية, ومن الواضح أن هذا القرار يعكس موقفا لوزارة الخارجية الأمريكية علاوة علي تماشيه مع مواقف بعض أعضاء الكونجرس الذين لهم مواقف معادية لمصر, وما يصدر عن الإدارة الأمريكية يعكس عدم وجود سياسة واضحة تتفق عليها دوائر صنع القرار الأمريكي للتعامل مع مصر وأن هناك نوعا من الارتباك والازدواجية والتناقض بين ما يصدر عن الرئيس الأمريكي ترامب وبين ما يصدر عن مؤسسات أخري مثل الكونجرس أو وزارة الخارجية أو البنتاجون.
** المعونة الأمريكية لمصر سواء الاقتصادية أو العسكرية يحكمها إطار لمصالح متبادلة استفادت منها أمريكا كما استفادت منها مصر, وارتبط جزء من هذه المعونة بالمسئولية الأمريكية المترتبة علي معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل, ومن الضروري الإشارة إلي أمرين: الأول أن المبلغ الذي تضمنه القرار الأمريكي الأخير -290 مليون دولار- لا يرتب تأثيرات سلبية كبيرة ويبقي الإجراء برمته في حدوده الرمزية ولا يعكس تغييرا استراتيجيا في السياسة الأمريكية تجاه مصر… والأمر الثاني أن استمرار المعونة العسكرية يمثل مصلحة استراتيجية لأمريكا تحقق من خلالها الكثير كما تستفيد منه مصر بالضرورة.
** لعل من المفيد تأكيد ضرورة التعامل مع القرار الأمريكي بهدوء وعقلانية, فالحرص علي ضبط التوتر في العلاقات الثنائية بين القاهرة وواشنطن من شأنه أن يفوت الفرص علي الدوائر التي لاتزال ترتبط بفكر الإدارة الأمريكية السابقة المناوئ لمصر, ويجب أن تسعي مصر لاستيعاب سلبيات الموقف الأمريكي وتحصين العلاقات المصرية الأمريكية ضد الانزلاق في أزمات وأن يتم تفعيل حوار استراتيجي بغية حماية المصالح الاستراتيجية المصرية.
*** أجدني منحازا لرؤية الدكتور محمد مجاهد الزيات ومستريحا لتوجهاته وللمساحة الحكيمة التي تركها للإدارة والقيادة المصرية للتعامل مع ملف المساعدات الأمريكية بل والعلاقات المصرية الأمريكية برمتها.